ثانيهما: الفهم الصحيح للكلام المنقول، فإذا صحَّ الفهمُ للمنقولِ معنى فحسنٌ جميل.
إلا أننا بُليَ زماننا بأقوامٍ أخلوا بكلا الأمرين، فلا راعوا نقلاً نصياً، و لا صانوا المعاني من سَوْءَةِ فهومهم فخانوا العلم و أهله بفهوم منكوسة، طوى عليها الزمان بساط الردى و الغَيِ.
و (الأمانة العلمية) لفقدانها صورٌ عِدَّةٌ:
الأولى: الزيادة على النقل دون الإشارة لها.
فكثيراً ما يُدْرِجُ بعضُ النُّقَّال من بعض المصادر كلاماً ليس من ضمن المنقول، و يعزُبُ عنهم _ و هذا نادرٌ، و إلا فالأكثرُ الإهمالُ المُتعمَّد _ تبيانُ ذاك المُدرج، فيفهم من يقرأ أن ذلك من ضمن الكلام الأصل المنقول.
و هذا لا يستريبُ عاقلٌ في مدى لصوقهِ بالخيانة العلمية، إذ بعضهم يدفعه إلى ذلك أمورٌ سيئة، منها:
أولاً: اتهامٌ للمنقولِ عنه بأنه ذو منهج منحلٍ، و معتقدٍ فاسد، و غير ذلك من التهم المُلْصَقة بالمنقول عنه.
و صاحب هذا العمل قد جمع إلى الخيانة الاتهام، و بئس العملان.
ثانياً: التغرير بالمتلقي للمنقول _ المَزِيْدِ عليه _ في كونه كلاماً و نقلاً عن فلان، و هذه كثيراً ما يقعُ فيها كثيرٌ من المشتغلين بالتأليف، و الذين ينهجون منهجاً مُطَّرَحاً بين قومهم.
و هؤلاء جمعوا: خيانةً، و كذباً، و تغريراً، و الله المستعان.
الثانية: النَّقْصُ من النصِّ إخلالاً به.
مُتَعارَفٌ لدى الفضلاء أن نقلَ الكلام بتمامه و كمالِه محمَدَةٌ و منقبة، و الإنْقاصُ منه سوءٌ و مذمة، و كونهما في العلوم أشدُّ و أعظمُ.
عَمَدَ بعضُ منْ قلَّتْ أمانته، و ضعُفَتْ ديانته إلى بَتْرِ النُّقول، و فَتْقِ الكلام، إخلالاً به، و إفساداً لمعناه.
و جرَّهم إلى هذا الصنيع المَشِيْن عند أولي النُّهى و العقل أسباب على رأسها اثنان:
الأول: الحسدُ، فكم رأينا أقواماً أخلوا بالأمانة العلمية في النقول بباعثِ الحسد، و لا يتفقُ ذا مع تزكيةِ العلم لقلبِ صاحبه، و لكن في زمن تطويع العلم للأهواء حدِّثْ و لا حرج بمفاسد ذويه.
الثاني: الخيانة و المخادعة للمسلمين، يُبْتَرُ كلامٌ ليُسْتَشْهَدَ به على منحىً فاسد، و نِحلةٍ عوجاء، و في تمامِ الكلامِ نَقْضٌ للمُسْتَدَلِّ به عليه.
و مُعاشِرُ الحال بصير بالمُراد.
الثالثة: تَنْكيسُ الفهمِ، و تغييرُ المُراد.
قد يكون النقلُ تامَّاً غيرَ ذي نقصٍ و لكن يعتريه إخلالٌ بأمانة الإيضاح، فيأتي الناقلُ شارحاً النقلَ، كاشفاً عن معناه غلطاً و خطأً.
و هذا قد يكون عمداً و قد يكون خطأً.
الرابعة: عدمُ المُراعاة للاصطلاحات التي دَرَجَ عليها صاحبُ الكلام المنقولِ عنه، و معرفةُ اصطلاحات المؤلف من خلال طريقين:
الأولى: إيضاحُه ذلك، و تبيينه، كما هو المعتاد من أئمة العلم، و يُراعى الاصطلاح المُشْكِل فهو محلُّ الزلل.
الثانية: ما عليه مذهبُ العالم سواءً: عقيدةً، أو فقهاً، أو حديثاً، أو نحواً ... .
فمراعاة الاصطلاحات كافٍ في ضمان أمانةِ النقلِ، و البُعد عن الخيانةِ فيه، و منْ يدري؟!.
فائدةٌ:
قالَ العلامة عبد الفتاح أبو غدةَ _ رحمه الله _ " تصحيحُ الكتب " (ص 100):
و إنما يُنتقدُ منه الجملة التي يختمون بها النص، و هي قولهم: (انظر كتاب كذا). فيستعملون (انظر كذا) لمجرد الإحالة إلى الكتاب المنقولِ منه، و هذا التعبير خطأ في هذا الموضع، لأن كلمة (انظر) تقتضي أن يكون في الموضع المحال إليه للنظر فيه شيء مفيدٌ زائد على النص الذي نقلوه أو المذكور، ليستزيد منه الباحثُ فائدة لم تذكر في النص المنقول أمامه.
أما إذا كان المُراد من (انظر) مجرَّدَ الإحالة إلى المصدر المنقول منه، فلا ينبغي استعمالُ (انظر)، بل ينبغي أن يقال عند ختام النص المنقول: (من كتاب كذا)، أو نحوُ هذا، دون أمرٍ بالنظر. أ. هـ.
القِسمُ الثالث
الأمانةُ في الطَّرْح 5_ الإحالةُ غير السديدة: جرتْ عادةُ بعضِ الكاتبين أو المعلقين على الكتب اليوم، أن يوردوا نصاً من كتاب، لإيضاح المقام، أو لتصويب خطأ في الكلام، و يختمون الكلام الذي نقلوه بقولهم: انظر كتاب كذا، و يُسمون الكتاب الذي نقلوا النص منه، و يذكرون الجزء و الصفحة. و هذا النوع من التوثيق لا غبار عليه و لا نقد فيه من حيث هو توثيق.
¥