ومن هنا لزم أن نحدد سنا معينا إذا وصلتها الفتاة قلنا: إنها بلغت البلوغ الحكمي الذي به يمكن أن تحاسب عن التكاليف الشرعية، وهذا الزمن غالبه عند الأئمة خمسة عشر عاما سواء كان ذلك للذكر أو الأنثى، وهذا التقدير الزمني إنما يكون كائنا عند فقدان البلوغ الطبيعي المعروف حسيا بالحيض للجارية وإمكانية الحبل، وبالاحتلام (*) للغلام وهذا هو رأي جمهور الفقهاء.
ودم الحيض إنما خلقه الله لحكمة تربية الحمل به، فمن لا تصل للحمل لا توجد فيها حكمته فينتفي لانتفاء هذه الحكمة كالمني فهما متقاربان في المعنى فإن أحدهما يخلق منه الوالد والآخر يربيه ويغذيه وكل منهما لا يوجد من صغير.
ومما يدل على أن أقل سن تحيض له الجارية هو تسع سنين ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة) (31).
والمراد بذلك أنه يصير حكمها حكم المرأة وهذا هو قول الشافعي (32).
وقد أثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: (رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة) (33).
وقد يقع هذا بأن تحيض لتسع وتلد لعشر وبنتها تحيض لتسع وتلد لعشر فهذه عشرون سنة وسنة للحمل فتضع مولودا فهذه إحدى وعشرون سنة.
وإن رأت الدم لدون تسع فهو دم فساد على كل حال؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضا (34).
منتهى الحيض (الإياس):
اختلف الرواية عن الإمام أحمد في يأس المرأة من الحيض، وقال الخرقي: إنها لا تيأس من الحيض يقينا إلى ستين سنة وما تراه فيما بين الخمسين والستين مشكوك فيه لا تترك له الصلاة ولا الصوم.
وروي عنه رحمه الله ما يدل على أنها لا تحيض بعد الخمسين وكذلك قال إسحاق بن راهويه: لا يكون حيضا بعد الخمسين ويكون حكمها فيما تراه من الدم حكم المستحاضة؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا بلغت خمسين سنة خرجت من حد الحيض، وروي عنها أيضا أنها قالت: إذا بلغت لن ترى المرأة ولدا بعد الخمسين.
وإن كان الاستقرار والتتبع والوجود يخالف ذلك فقد قال الزبير بن بكار في كتاب النسب: (إن هندا بنت أبي عبيدة بن عبد الله ولدت موسى بن عبد الله بن حسين بن حسن بن علي أبي طالب ولها ستون سنة).
وقال الإمام أحمد في امرأة من العرب رأت الدم بعد الخمسين: إن عاودها مرتين أو ثلاثة فهو حيض (35).
والعادة غالبا لها أثر في الشرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: (امكثي قدر ما تحبسك حيضتك ... ) (36). فردها إلى العادة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لو قدر أن زاد الدم المعروف من الرحم بعد ستين أو سبعين لكان حيضا، واليأس المذكور في الآية في قوله تعالى: [واللائي يئسن من المحيض] (37). ليس هو بلوغ سن، فلو كان بلوغ سن لبينه الله ورسوله وإنما هو أن تيأس المرأة نفسها من أن تحيض ولو كانت بنت أربعين، ثم إذا تربصت وعاد الدم تبين أنها لم تكن آيسة، وإن عاودها بعد الأشهر الثلاثة فهو كما لو عاد غيرها من الآيسات، والمستريبات، ومن لم يجعل هذا هو اليأس فقوله مضطرب إن جعله سنا وقوله مضطرب إن لم يحد اليأس لا بسن ولا بانقطاع طمع المرأة في الحيض، وبنفس الإنسان لا يعرف) (38).
ومعنى ذلك أنه متى وجد الحيض ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت له حكم، ويمكن أن يوجد قبل تسع سنين وبعد الخمسين وهذا يشهد له الواقع.
فإن قيل: هل جرت العادة أن يذكر القرآن السنوات بأعدادها؟ فالجواب على ذلك: نعم؛ قال الله تعالى: [حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة] (39).
ولو كانت مدة الحيض معلومة بالسنوات لبينه الله تعالى؛ لأن التحديد بالخمسين أوضح من التحديد بالإياس (40).
خصائص دم الحيض
اتفق العلماء على أن اللون الأحمر هو الأصل في الدم، إلا أنه قد يغلب عليه السواد فيصير دم الحيض أسود. ويتميز دم الحيض بأنه غليظ لا ذع كريه الرائحة ولكن قد يتغير لون الدم على حسب اختلاف الطبيعة والبيئة من مكان إلى مكان.
واتفق جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على ألوان أربعة هي الأسود والأكدر والأصفر والأحمر. وإن كان المالكية قد ذكروا الثلاثة الأولى منها ولم يذكروا اللون الرابع وهو الأحمر، وزاد الأحناف الخضرة والتربية (41).
والخضرة: هي نوع من الكدرة، ولعل السبب فيه فساد المنبت أو أن المرأة ربما أكلت قصيلا أو نوعا من البقول.
أما التربية: فهو ما يكون لونه كلون التراب وهو نوع من أنواع الكدرة (42).
¥