تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا يمكن أن يلغى هذا الأصل في فهم النصوص واعتبار مدولاتها، إذا العرف مرتبط بالشرع سلبا وإيجابا، ولهذا كان العرف الفاسد مرفوضا لمخالفته النص أو ما رام النص إليه، كاعتبار العرف الصحيح مقبولا لعدم المخالفة، فقيام مصالح الناس وقضاء حوائجهم وتحقيق معاملاتهم وعقودهم يدور بين الشرع وما أناطَ الشرعُ به الحكمَ كالعرف في كثير من مسائل الدين.

وبهذا المعنى يُعلم مدى سماحة الشريعة وتحقيقها للمقاصد الشرعية في الحفاظ على المسلم وسلامةِ معاملاته مما يشينها أو يعيبها، فإذا فهم المكلف هذا الأمر واستقر في قلبه تَجلت له كمال حكمة الله تعالى ومنتهى علمه، الذي أحاط بالعبادات والمعاملات فكانت على نسق دقيق لا خلل فيها ولا نقص من أي وجه كان، فسبحان الله العليم الحكيم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادت يحتاجون إليها.

فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى.

وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟ ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أم لهم شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (9).

إن أعراف الناس وعاداتهم تختلف باختلاف الزمان والمكان لا محال، وهذا ما يسميه الأصوليون بالعرف الخاص أي يختص بنوع أو جنس أو فئة دون غيرهم، قال الرازي (العرف الخاص فهو ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والكسر والقلب والجمع والفرق للفقهاء والجوهر والعرض والكون للمتكلمين والرفع و النصب والجر للنحاة) (10)، وقد عُرّف بأنه (العرف الذي يتعارفه بعض الناس، أو الذي يتعارفه طائفة معينة، أو بلاد معينة) (11) ومثال ذلك تعارف أهل العراق على إطلاق لفظ الدابة على الفرس، وتعارف أهل الخليج على لبس الغترة أو الشماغ، وتعارف أهل موريتانيا على استبدال لفظة (ابن) بلفظ (ولد) فيقال مثلا عمرو ولد عثمان وهكذا.

وهذا المتعارف عليه تتماشى معاملات الناس ومصالحهم بحسبه، فما كان في بلاد فلا يفرض على أخرى، وما تعارف عند قوم فلا يفرض على آخرين، ما دام الأمر قد أنيط بالشرع وأقر به، ولهذا علق أهل الحديث في قبول الرواية على كون الراوي قد خلا مما يشين حاله فتُترك روايته، لأنها تتعلق تعلقا مباشرا بعدالته، ومن الأمور التي ذكروها رحمهم الله تعالى اتصاف الراوي بالمروءة، وهي (آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسانَ على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات) (12) فهذه الآداب والمحاسن تختلف من مجتمع إلى آخر، بل قد يكون منها في ما هو ضد الآداب في مجتمع أو زمن آخر، ولهذا كان من الصعب ضبطها وجعلها قواعد يرجع إليها في هذه الآداب، لأنه تحجير على الناس وتضييق عليهم في أمور حياتهم، فأناط علماء الحديث مرجع المروءة إلى العرف لتعلقها بالأخلاق، ولما كانت الأمور العرفية قلّما تنضبط لاختلاف الأشخاص والبلدان والأزمان كان عامل العرف هو الحَكَم في تحديدها وبيانها، (فقد تجري عادة بلد بمباشرة أمور، ولو باشرها غيرهم لعُدَّ ذلك خرما للمروءة وإن كانت مباحة شرعا، كالأكل في الأسواق والانبساط في المداعبة والمزاح ونحو ذلك) (13).

ومن الأمثلة الواضحة على ما ذكر تعارف الناس على ستر الرأس في بلد دون آخر، بل قد يعتبر من لا يستر رأسه في بعض البلدان خاصة في المناسبات والتجمعات من خوارم المروءة، وقد تجد في بعض البلدان أيضا أن الناس تعارفت على الأكل في المطاعم أو في محلات خاصة، وقد يعتبر في بلد آخر هذا من الأمور الساقطة، وهكذا المرء في بيته قد يفعل أشياء لا يقدر على فعلها أمام الناس من المباح، كلبس ثياب النوم والمزاح والكلام المباح مع أهله، فظهر أن العرف إلى جانب كونه أصلا في تنظيم حياة الناس فهو من ناحية أخرى يتعلق تعلقا وجوديا أو عدميا بالزمان والمكان واختلاف طبائع

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير