عند التطلع للأفضل وتمني عودة المفقود
«قاضي الأنبار»
أحمد بن محمد بن البراء، أبو العباس قاضي الأنْبار ثم قاضي مدينة المنصور وربع باب الشام، كان يلبس السواد ولم يكن ذا فقه ورأي بل كانَ سليماً تعتريه غفلة وكان يلبس السواد الفتوجيّة حتى لا يميّز بينَ أكمامه وأكمام النساء لسعة ذلك، وإذا برز مِنْ عنده بعض حُرمه لبسوا ذلك السواد. اجتاز يوماً بسوق الطير وهو بسواده والقمطر بين يديه والمسودة من أصحاب الشُّرَطِ والرجالة فرأى صياداً معه صَعْوَة، فقال: هذه والله شهوة ولدي محمد ومَا أزول إلاَّ بهِ، فوقف والناس بين يديه وأخرج خرقة من خفه وفتح طرفها وأخرج دانقاً فناوله الصياد وتناول الصَّعوة فقالوا له: تحتاج إلى قفص، فقام والخلق حضور فتناول دنيَّتَه عن رأسه ووَضع الصعوة على هامته ثم أطبق الدنية وسار إلى منزله والناس يتضاحكون منه، فلمّا رأى ابنه قال: خذ يا بني، وتطأطأ ليأخذها فطارت الصعوة، فقال: يا بني، كانت في حرز ولكنّك لم تحسن تناولها، ثم أخذ يقول: واحسرتا على فوت منية ولدي، العود أحمد، غداً مجلس الحكم نظفر إن شاء الله بالصياد وبالصَّعوَة، وكرّره مراراً.
قال ياقوت: ووُجد بخطّ ابن ممّاتي (مرفل الكامل):
صحَّ التمثّل في قديم الدهر أن العود أحمدْ
في أقوال الشعراء
[العود أحمد]
وهو في أعجاز أبيات لا أعرف أيها أسبق، فمنها قول الشاعر:
فإن كان مني ما كرهت فإنني ... أعود لما تهوين والعود أحمد
قال ابن المعتز:
خليلى قد طاب الشراب المبرد ... وقد عدت بعد النسك والعود أحمد
وهو في شعرٍ للجميح يقول فيه:
تسألني عن بعلها أي فتى ... خبٌ جبانٌ فإذا جاع بكى
لا حطب القوم ولا القوم سقى ... ولا ركاب القوم إذ ضاعت بغى
ولا يوارى فرجه إذا اصطلى ... ويأكل التمر ولا يلقى النوى
كأنه غرارةٌ ملأى حتى ... لما رأى الرمل وقيزان الغضى
بكى وقال هل ترون ما أرى ... أليس للسير الطويل منقضى!
قلت أعزى صاحبي ألا بلى ... عند الصباح يحمد القوم السرى
قولهم:
عند الصباح يحمد القوم السرى
وتنقضي عنهم غيابات الكرى
وهو مثل يضرب لما ينال بالمشقة، ويوصل إليه بالتعب.
ذكر عود السلطان إلى مصر
" ذلك زمن حروب الأقطار مع التتار "
لما جرى ما جرى من انهزام الجيش السلطاني وصل السلطان الناصر إلى القاهرة وصحبته الأمير سيف الدين سّلار، والأمير ركن الدين الأستادار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، ومن يلوذ به، وطلعوا القلعة في العشر الأخير من ربيع الآخر.
ثم رحل السلطان ببقية العسكر وتوجهوا إلى مصر، فوصل السلطان إلى قلعة الجبل في عاشر جمادى الأولى، وكان العود أحمد وأولى.
واستعفى الأمير سيف الدين كراي السلحدار من نيابة صفد، ورسموا بنيابتها للأمير سيف الدين بتخاص، وأنعم على الأمير كراي بإقطاع الأمير سيف الدين بلبان الطباخي بحكم وفاته.
وكان عند العسكر فرح عظيم من رجوع السلطان إلى القاهرة بسبب ما قاسوا من الشدة والقلة، وقال بعضهم في ذلك:
أقمنا على العوجاء خمسين ليلةً ... ندبر أمراً قد حكاه انعواجها
وقال صاحب النزهة منشداً لنفسه:
يا سفرة العوجاء من سفرة ... كادت بها أرواحنا تخرج
سماؤها ممطرة دائماً ... وغيثها من برده يثلج
والشمس في أركانها ظلمة ... وصحبها مع ليلها مدلج
لا برح الجندي من أرضها ... إلاّ عليل الجسم أو أفلج
وقال ابن كثير: ولما وصلت الأخبار إلى الشام بأن السلطان صاحب مصر قد رجع عائداً إلى مصر، كثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جداً، وخرج كثير من الناس خفافاً وثقالاً يتحملون بأهاليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم قويت الأراجيف بوصول التتار، وتحقق أهل الشام عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي دمشق في الناس: من قدر على السّفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، وبقي على الناس ذلة وخمدة وزلزلوا زلزالاً شديداً، وغلقت الأسواق، وتيقن الناس أن لا ناصر لهم، ودخل كثير من الناس إلى القلعة ولم يبق في دمشق من الأكابر إلاّ القليل، وسافر قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وشمس الدين بن الحريري، ونجم الدين ابن صصري، ووحيد الدين بن منجا، وقد كانت سبقتهم بيوتهم إلى ديار مصر.
¥