تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولذلك سنفصل -بحول الله- فيما يأتي هذه الاستثناءات والأمور التي لا تخالف ولا تناقض أصل البراءة:

استثناءات لا تنقض أصل البراءة:

أولاً: اللين عند عرض الدعوة:

لا تعني البراءة من الكافرين حجب دعوة الإسلام عنهم وتركهم لما هم فيه من ضلال. بل يحتم الإسلام على أهله دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والحرص على هدايتهم والرغبة الأكيدة في تحولهم إلى الإسلام ولما كان هذا لا يأتي إلا بالدخول إلى النفوس من مداخلها واستجلاب رضاها وراحتها فإن الإسلام جعل سبيل الدعوة مع الكفار وغيرهم هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين} (النحل:125) .. وذلك أن النفوس الشاردة، والقلوب القاسية لا تعود إلى الإسلام ولا تلين إلا بالملاينة والملاطفة وإظهار العطف والشفقة والحرص.

ولذلك قال تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه:44) وهكذا صنع موسى مع فرعون لاطفه في أول لقاء له وشرح له دعوته وجادله بالحسنى ووكل أمره لله بعد أن أعلن فرعون عداوته له. وهكذا أيضاً فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين والكافرين والمعاندين ممن عرض عليهم دعوته سواء كانوا من العرب المشركين أو اليهود أو النصارى جادلهم رسول الله بالحسنى ودعاهم باللين والبيان وصبر معهم صبراً طويلاً ولم يثبت قط أنه أهانهم أو اغلظ عليهم عند عرض الدعوة أبداً وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (العنكبوت:46) وقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل:125)، وقوله: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً} (المزمل:10) وقوله: {لست عليهم بمسيطر} (الغاشية:22) وقوله: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} (الشعراء:216) ولم يقل: فاغلظ لهم القول وسبهم واشتمهم.

وهذه الآيات كلها ومثلها بالمئات في القرآن الداعية إلى الحكمة والصفح الجميل عن المكذبين لا تناقض قوله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} (التوبة:73)، وذلك أن الغلظة المأمور بها هنا إنما هي الغلظة في القتال فقط، وهذا مقام يحتاج إلى شدة وغلظة بخلاف مقام الدعوة، ولكل مقام مقال، كما يقولون. وذلك بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} (التوبة:123). فهذه الغلظة هنا تفسر الغلظة في الآية الأخرى وأن ذلك إنما يكون في مقام القتال والمقاتل إن لم يتصف بالشجاعة والقوة والغلظة لمن يقاتلونه لا ينتصر. فلو رحمه أو لاينه أو أشفق عليه فإنه لا يقتله. ومما يوضح ذلك جلياً ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين في موقعة بدر، فقد رص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ودعا المؤمنين إلى الشجاعة في القتال وقال: [والله لا يقتل رجل منكم اليوم مقبل غير مدبر إلا دخل الجنة] (رواه أبو إسحاق. انظر البداية والنهاية 3/ 276 - 277). وفي هذا غاية التحريض على بذل النفس ولكنه بعد المعركة وهزيمة الكفار وأسر سبعين منهم لاطف الأسرى ولاينهم وداوى جراحاتهم وأمر الصحابة بإكرامهم فقال صلى الله عليه وسلم [اكرموا الأسرى] (الترمذي وأبو داود)، حتى أن الصحابة كانوا يؤثرونهم بالطعام الجيد على أنفسهم وأنزل القرآن في ملاطفة الأسرى ودعوتهم للإسلام فقال تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما اخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} (الأنفال:70)، وهذا غاية الملاينة والملاطفة في دعوتهم إلى الإسلام وأن الله سيعوضهم عن الفدية التي أخذت منهم إن هم أذعنوا للإسلام وآبوا إلى الله ورسوله. وبهذا يظهر لنا جليا التفريق بين مقام القتال ومقام الدعوة.

فمقام الدعوة هو مقام اللين والملاطفة وتخير الألفاظ وإحسان القول رغبة في تطميع الكافر في الدين، واستمالة لقلبه إليه.

والجاهلون بهذا لا يميزون بين مقام ومقام ويظنون أن البراءة من الكفار تعني سبهم وشتمهم وإغلاظ القول لهم في مقام الدعوة وهذا غاية الجهل والحماقة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير