النوع الثالث. أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا؛ مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم؛ فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهل أو مكسبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد؛ كما هو واقع كثيرا.
النوع الرابع. أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام؛ مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة؛ لأن لفظهما عام؛ فالأمر خطير يوجب على المسلم الحذر من أن يطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا.
وقد جاء في " صحيح البخاري " أن من كان قصده الدنيا يجري وراءها بكل همه أنه يصير عبدا لها:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي؛ رضي، وإن لم يعط؛ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
ومعنى " تعس " لغة: سمط، والمراد هنا هلك، وسماه عبدا لهذه الأشياء لكونها هي المقصودة بعمله؛ فكل من توجه بقصده لغير الله؛ فقد جعله شريكا له في عبوديته؛ كما هو حال الأكثر، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاسة وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولابد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفات الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة، وذكر فيها ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله: " تعس وانتكس، وإذا شيك؛ فلا انتقش "، وهذا حال من إذا أصابه شر؛ لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط؛ كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}؛ رضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برئاسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط؛ فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته؛ فما استرق القلب واستعبده فهو عبده. . . ".
إلى أن قال: " وهكذا طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:
الأول. منها ما يحتاج العبد كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك؛ فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته - بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه - من غير أن يستعبده فيكون هلوعا.
الثاني. ومنها ما لا يحتاج إليه العبد؛ فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه به؛ فإذا علق قلبه؛ صار مستعبدا له، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله. وهذا أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهذا عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها؛ رضي، وإن منعه إياها؛ سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله؛ فهذا الذي استكمل الإيمان. . . " انتهى كلامه رحمه الله.
قلت: ومن عبيد المال اليوم الذين يقدمون على المعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة بدافع حب المادة؛ كالذين يتعاملون بالربا مع البنوك وغيرها، والذين يأخذون المال عن طريق الرشوة والقمار، وعن طريق الغش في المعاملات والفجور في المخاصمات، وهم يعلمون أن هذه مكاسب محرمة، لكن حبهم للمال أعمى بصائرهم، وجعلهم عبيدا لها، فصاروا يطلبونها من أي طريق.) اهـ.
4 - ما تقولون في تقسيم الشرك إلى ثلاثة أقسام؛ أكبر وأصغر وخفي؟
الجواب:هذا التقسيم قاله طائفة من أهل العلم وفيه نظر، والصحيح أن الشرك قسمان:
1 - أكبر.
2 - وأصغر.
والشرك الخفي:
منه ما هو أكبر كالنفاق الأكبر فإن المنافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الشرك.
ومنه ما هو شرك أصغر وهذا مراتب متفاوتة.
وقد قرأت لبعض المتأخرين حين قسَّم الشرك إلى ثلاثة أقسام، قال: (والشرك الخفي دون الأصغر).
وهذا الإطلاق بدون قيد غير صحيح، وقد تقدم أن الشرك الخفي منه ما هو شرك أكبر وصاحبه لا تناله شفاعة الشافعين ولا رحمة أرحم الراحمين، وقد كتب الله عليه الخلود في السعير، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}، وقال تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة}.
والشرك الأكبر: هو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله.
والشرك الأصغر: هو ما جاء في الأدلة الشرعية تسميته شركاً ولم يصل إلى الأكبر.
وقد قيل إن هذا الشرك لا يغفر فلا بدَّ أن يُعذّب صاحبه ولكنه لا يخلد في النار، ذكر ذلك ابن مفلح في الفروع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد أشار إلى هذه المسألة في رده على البكري.
والقول الثاني: أن صاحب هذا الشرك تحت المشيئة، وهو قول عامة العلماء وهو الصحيح، فإن الله تعالى يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به - أي الشرك الأكبر - ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} يدخل فيه الشرك الأصغر.
والله أعلم
[جواب السؤال الخامس من الجلسة الخامسة للشيخ سليمان بن ناصر العلوان]
بتاريخ 11/ 6 / 1421 هـ]
وراجع أخي شروح كتاب التوحيد فستجد ما يروى الغليل ويشفي العليل.