وفي هذين الحديثين دليل على أن ما اشتهر في كتب الفقه من المنع عن الصلاة بعد العصر مطلقاً – ولو كانت الشمس مرتفعة نقية – مخالف لصريح هذين الحديثين , وحجتهم في ذلك الأحاديث المعروفة في النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقاً , غير أن الحديثين المذكورين يقيدان تلك الأحاديث , فاعلمه.
الاقتصار على التسليمة الواحدة في الصلاة
316 – (كان يُسَلمُ تسلمية واحدة).
وهذا الحديث من أصح الأحاديث التي وردت في التسلمية الواحدة في الصلاة، وقد ساق البيهقي قسماً منها، ولا تخلو أسانيدها من ضعف، ولكنها في الجملة تشهد لهذا، وقال البيهقي عَقِبَها: (ورُوي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سلموا تسليمة واحدة، وهو من الاختلاف المباح، والاقتصار على الجائز).
وذكر نحوه الترمذي عن الصحابة، ثم قال: (قال الشافعي: إن شاء سلَّم تسليمة واحدة، وإن شاء سلَّم تسليمتين).
قلتُ: التسليمة الواحدة فَرْض لا بدَّ منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (. . . وتحليلها التسليم)، والتسليمتان سنة، ويجوز ترك الأخرى أحياناً لهذا الحديث.
ولقد كان هديه صلى الله عليه وسلم في الخروج من الصلاة على وجوه:
الأول: الاقتصار على التسليمة الواحدة؛ كما سبق.
الثاني: أن يقول عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة الله"، وعن يساره: "السلام عليكم".
الثالث: مثل الذي قبله إلا أنه يزيد في الثانية أيضاً: "ورحمة الله".
الرابع: مثل الذي قبله إلا أنه يزيد في التسليمة الأولى: "وبركاته".
وكل ذلك ثبت في الأحاديث، وقد ذكرتُ مُخرجيها في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"، فمن شاء راجعه.
لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ
318 – (لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ وَلَا تَسْلِيمٍ).
أخرجه أبو داود , والحاكم , كلاهما عن الإمام أحمد , والطحاوي من طريق عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به , زاد أبوداود: (قَالَ أَحْمَدُ يَعْنِي فِيمَا أَرَى أَنْ لَا تُسَلِّمَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْكَ وَيُغَرِّرُ الرَّجُلُ بِصَلَاتِهِ فَيَنْصَرِفُ وَهُوَ فِيهَا شَاكٌّ).
ثم روى أحمد عن سفيان قال: (سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إِغْرَارَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ وَمَعْنَى غِرَارٍ يَقُولُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْكَمَالِ).
وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) , ووفقه الذهبي , وهو كما قالا.
قال ابن الأثير في النهاية: (الغرار: النقصان , وغرار النوم: قلته , ويريد بغرار الصلاة: نقصان هيآتها وأركانها , وغرار التسليم: أن يقول المجيب: وعليك , ولا يقول السلام , وقيل: أراد بالغرار النوم , أي ليس في الصلاة نوم.
والتسليم يروى بالنصب والجر , فمن جره , كان معطوفاً على الصلاة كما تقدم , ومن نصب , كان معطوفاً على الغرار , ويكون المعنى: لا نقص ولا تسليم في صلاة , لأن الكلام في الصلاة بغير كلامها لا يجوز).
قلت: ومن الوضح أن تفسير الإمام أحمد المتقدم , إنما هو على رواية النصب , فإذا صحت هذه الرواية , فلا ينبغي تفسير غرار التسليم بحيث يشمل تسليم غير المصلي على المصلي , كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد , وإنما يقتصر فيه على تسليم المصلي على من سلم عليه , فإنهم قد كانوا في أول الأمر يردون السلام في الصلاة , ثم نهاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وعليه يكون هذا الحديث من الأدلة على ذلك.
¥