قلت: لا يخفي على البصير أن قول الطائفة الأولى هو الأرجح والأليق بظواهر هذه الأحاديث , وتأويلها بما تأولته الطائفة الأخرى من حملها على المعاريض مما لا يخفى بعده , لا سيما في الكذب في الحرب , فإنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل على جوازه , ولذلك قال الحافظ في الفتح:
(قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة , لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص وفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال , ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا انتهى. ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس في قصة الحجاج ابن علاط الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم , وإخباره لأهل مكة أن أهل خبير هزموا المسلمين وغير ذلك مما هو مشهور فيه).
فائدتان هامتان
609 - (إذا كان الذي ابتاعها [يعني: السرقة] من الذي سرقها غير متهم يخير سيدها؛ فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنها، وإن شاء اتبع سارقه).
أخرجه النسائي , والحاكم , وأحمد , عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي حَارِثَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا عَلَى الْيَمَامَةِ وَأَنَّ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّ أَيَّمَا رَجُلٍ سُرِقَ مِنْهُ سَرِقَةٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا حَيْثُ وَجَدَهَا ثُمَّ كَتَبَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ إِلَيَّ فَكَتَبْتُ إِلَى مَرْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنْ الَّذِي سَرَقَهَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ يُخَيَّرُ سَيِّدُهَا فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ بِثَمَنِهَا وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ ثُمَّ قَضَى بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِي إِلَى مُعَاوِيَةَ وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ إِنَّكَ لَسْتَ أَنْتَ وَلَا أُسَيْدٌ تَقْضِيَانِ عَلَيَّ وَلَكِنِّي أَقْضِي فِيمَا وُلِّيتُ عَلَيْكُمَا فَأَنْفِذْ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ فَبَعَثَ مَرْوَانُ بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ لَا أَقْضِي بِهِ مَا وُلِّيتُ بِمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ ".
وفي الحديث فائدتان هامتان:
الأولى: أنه من وجد ماله المسروق عند رجل غير متهم اشتراها من الغاصب أو السارق , فليس له أن يأخذه إلا بالثمن , وإن شاء لا حق المعتدي عند الحاكم , وأما حديث سمرة المخالف لهذا بلفظ: (من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به , ويتبع البيع من باعه) , فهو حديث معلول كما بينته في التعليق على المشكاة , فلا يصلح لمعارضة هذا الحديث الصحيح , لا سيما وقد قضى به الخلفاء الراشدون.
والأخرى: أن القاضي لا يجب عليه في القضاء أن يتبنى رأي الخليفة إذا ظهر له أنه مخالف للسنة , ألا ترى إلى أسيد بن ظهير كيف امتنع عن الحكم بما أمر به معاوية وقال: " لا أقضي ما وليت بما قال معاوية "؟
ففيه رد صريح على من يذهب اليوم من الأحزاب الإسلامية إلى وجوب طاعة الخليفة الصالح فيما تبناه من أحكام – ولو خالف النص في وجهه نظر المأمور – وزعمهم أن العمل جرى فيما على ذلك من المسلمين الأولين , فهو زعم باطل لا سبيل لهم إلى إثباته , كيف وهو منقوض بعشرات النصوص هذا واحد منها؟ ومنها مخالفة علي رضي الله عنه في متعة الحج لعثمان بن عفان في خلافة , فلم يطعه , بل خالفه صريحة كما في صحيح مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ اجْتَمَعَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِعُسْفَانَ فَكَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ أَوْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ مَا تُرِيدُ إِلَى أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْهَى عَنْهُ فَقَالَ عُثْمَانُ دَعْنَا مِنْكَ فَقَالَ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدَعَكَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى عَلِيٌّ ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا ".
¥