ولا يشكل على هذا لفظ الحديث عند البخاري في (أدبه) (1111)، وأحمد في (مسنده) (2/ 444):
((إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدؤوهم بالسلام، واضطروهم إلي أضيقها)).فأنه شاذ بهذا اللفظ.
فقد أخرجه البخاري أيضاً (1103)،ومسلم، وأحمد (2/ 266و459) وغيرهما من طرق عن سهيل بن أبي صالح بللفظ الأول.
الثانية: عن أبي عثمان النهدي قال:
((كتب أبو موسى إلي دهان يسلم عليه في كتابه،فقيل له: أتسلم عليه وهو كافر؟ قال: إنه كتب إلي فسلم علي، فرددت عليه)).
أخرجه البخاري في (أدبه) (1101) بسند جيد.
ووجه الاستدلال به، أن قول القائل: (أتسلم عليه وهو كافر؟) يشعر بأن بدء الكافر بالسلام كان معروفاً عندهم أنه لا يجوز على وجه العموم، وليس خاصاً بلقائه في الطريق، ولذلك استنكر ذلك السائل على أبي موسى، وأقره هذا عليه ولم ينكره، بل أعتذر بأن فعل ذلك رداً عليه لا مبتدئاً به، فثبت المراد.
الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إلي هرقل ملك الروم-وهو في الشام- لم يبدأه بالسلام، وإنما قال فيه:
((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله غلي هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى ... )).
أخرجه البخاري ومسلم،وهو في ((الأدب المفرد) (1109).
فلو كان النهي المذكور خاصاً بالطريق، لبدأه عليه السلام بالسلام الإسلامي ولم يقل له: (سلام على من اتبع الهدى)).
الرابعة: أن النبي الله صلى الله عليه وسلم لما عاد الغلام اليهودي قال له (أسلم ... ) الحديث، فلم يبدأه بالسلام.
وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، وهو مخرج في (الإرواء) (1272).
فلو كان البدء الممنوع إنما هو إذا لقيه في الطريق، لبدأه عليه السلام بالسلام
،لأنه ليس في الطريق كما هو ظاهر. ومثله.
الخامسة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء عمه أبا طالب في مرض موته، لم يبدأه أيضاً بالسلام، وإنما قال له)) يا عم قل: لا أله الا الله ... )) الحديث.
أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في ((الإرواء)) (1273).
فثبت من هذه الرويات أن بدء الكتابي بالسلام لا يجوز مطلقاً، سواء كان في الطريق أو في المنزل أوغيره.
فإن قيل: فهل يجوز أن يبدأه بغير السلام من مثل قوله: كيف أصبحت أو أمسيت، أو كيف حالك ونحو ذلك؟
فأقول: الذي يبدو لي_والله أعلم- الجواز، لأن النهي المذكور في الحديث إنما هو عن السلام، وهو عند الإطلاق إنما يراد به السلام الإسلامي المتضمن لاسم الله عز وجل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم
((السلام أسم من أسماء الله وضعه في الأرض، فأفشوا السلام بينكم)).
أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد) (989)،وقد تقدم برقم (184)،وسيأتي الإشارة إليه تحت الحديث (1894).
ومما يؤيد ما ذكرته قول علقمة:
((إنما سلم عبدالله (يعني: ابن مسعود) على الدهاقين إشارة)).
أخرجه البخاري (1104) مترجماً له بقوله ((من سلم على الذمي إشارة)).وسنده صحيح.
فأجاز ابن مسعود ابتداءهم في السلام بالإشارة، لأنه ليس السلام الخاص بالمسلمين، فكذلك يقال في السلام عليهم بنحو ما ذكرنا من الألفاظ.
وأما ما جاء في بعض كتب الحنابلة-مثل (الدليل) -أنه يحرم بداءتهم أيضاً بـ ((كيف أصبحت أو أمسيت؟)) أو ((كيف أنت أو حالك؟)) فلا أعلم له دليلاً من السنة، بل قد صرح في شرحه ((منار السبيل)) أنه قيس على السلام.
أقول: ولا يخفى أنه قياس مع الفرق، لما في السلام من الفضائل التي لم ترد في غيره من الألفاظ المذكورة. والله أعلم.
مسألة أخري جري البحث فيها في المجلس المشار إليه، وهي: هل يجوز أن يقال في رد على السلام على غير المسلم: وعليكم السلام؟
فأجبت بالجواز بشرط أن يكون سلامه فصيحاً بيناً، ولا يلوي فيه لسانه كما كان اليهود يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقولهم: السام عليكم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجابتهم بـ ((وعليكم)) فقط، كما ثبت في ((الصحيحين)) وغيرهما من حديث عائشة.
قلت: فالنظر في سبب هذا التشريع يقتضي جواز الرد بالمثل عند تحقق الشرط المذكور، وأيدت ذلك بأمرين اثنين:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم ((إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليك فقولوا: وعليك)).
أخرجه الشيخان، والبخاري أيضاً في (الأدب المفرد) (1106). وهو مخرج في ((الإرواء)) (5/ 112).
¥