أولا: أنه لا يصح التعلق بضعف عبد الله بن صالح الذي رواه عن الليث عن عقيل عن الزهري مرسلاً؛ لأن الليث قد توبع كما سأذكر قريباً، وذلك من أسباب العدول المذكور.
ثانياً: أن ما تقدم في كلام الترمذي أن جرير بن حازم تفرد بروايته عن يونس عن الزهري بسنده المتصل عن ابن عباس، وبناءً عليه أجبت بأن جريراً ثقة ... فهذا كان جواباً ناقصاً؛ لأن الرجل فيه ضعف يسير من قبل حفظه؛ كما يستفاد من قول الحافظ في ((التقريب)):
((ثقة؛ لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه)).
ونحوه ذكر الذهبي في ((الضعفاء)).
وعليه فالجواب المشار إليه ضعيف، وقد أشار إلي ذلك البيهقي في ((سننه)) (9/ 156) عقب روايته للحديث بقوله:
((تفرد به جرير بن حازم موصولاً، ورواه عثمان بن عمر عن يونس عن عقيل عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطعاً. قال أبو داود: أسنده جرير بن حازم، وهو خطأ)).
قلت: وعثمان بن عمر هو ابن فارس العبدين وهو أوثق من جرير، فقد اتفقوا على توثيقه، بل قال العلجي:
((ثقة ثبت)).
ومما يؤيد ما قلت؛ إذا قابلت قول الحافظ المتقدم في جرير بقوله في عثمان هذا:
((ثقة، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه)).
وقول يحيى جرح غير مفسر؛ فلا قيمة له، وبخاصة مع اتفاق الأئمة الآخرين على توثيقه.
ثالثاً: وعلى افتراض أن جريراً حفظه عن يونس-وهو ابن يزيد الأيلي-فيكون هذا هو المخطئ في وصله؛ فإنه وإن كان ثقة محتجاً به في ((الصحيحين))؛ فإن له أوهاماً كما بينه الحافظ في ((مقدمة الفتح)) _ (ص455)؛ فقال:
((وثقه الجهور مطلقاً، وإنما ضعفوا بعض رواياته؛ حيث تخالف أقرانه؛ أو يحدث من حفظه، فإذا حدث عن كتابه فهو حجة)).
وقال في ((التقريب)):
((ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ)).
قلت: وهذا الحديث مما أخطأ فيه على الزهري- إن لم يكن أخطأ عيه جرير بن حازم كما تقدم-وذلك لأنه خالفه ثقتان احتج بهما الشيخان:
الأول: عقيل-وهو ابن خالد الأيلي-فقال: عن الزهري مرفوعاً. لم يجاوز به الزهري. وعقيل قال الحافظ:
((ثقة ثبت)).
أخرجه سعيد بن منصور في ((سننه)) (3/ 2/160/ 2387)، وعنه أبوداود في ((المراسيل)) (238/ 313).
والآخر: معمر-وهو ابن راشد البصري-فقال: عن الزهري به.
أخرجه عبد الرزاق في ((المصنف) ((5/ 306/9099).
ومعمر قال الحافظ:
((ثقة ثبت فاضل؛ إلا أن روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة)).
قلت: فاتفاق هذين الثقتين على رواية الحديث عن الزهري مرسلاً مما يؤكد للمتأمل وهم جرير أو يونس في وصله عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس.
وإذا تبينت هذا، فستعرف أن رواية حبان بن علي عن يونس وعقيل مما لا يصلح للاستشهاد به لمخالفته-مع ضعفه في نفسه كما تقدم-لرواية الثقتين المذكورين كما هو ظاهر.
وإنه مما يؤكد ما تقدم من التحقيق جزم أبي داود والبيهقي بخطأ الرواية المسندة كما تقدم، وكذلك قال غيرهما؛ مثل أبي حاتم وابنه، فقد ساق هذا الحديث في كتابه ((العلل)) (1/ 347/1024) من الوجهين المسندين-أعني طريق جرير وحبان- ثم قال:
((فسمعت أبي يقول: مرسل أشبه. لا يحتمل هذا الكلام أن يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم)).
قلت: ولعل نفي أبي حاتم رحمه الله لهذا الاحتمال إنما هو لمخالفة الحديث لظاهر قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ {65} الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
والشاهد منه التخفيف المذكور فيه، فقد قال ابن كثير في تفسير قوله عز وجل: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً):
((فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا منهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم)).
وظاهر الحديث أنه لا يجوز لهم التحوز إذا كان عددهم اثني عشر ألفاً؛ مهما كان عدد عدوهم، وهذا خلاف قول ابن عباس-راوي الحديث-:
¥