فيستفاد مما سبق أن الكراهة عند الطحاوي رحمه الله تحتمل أن تكون للحرمة و تحتمل أن تكون للتنزيه و هو المطلوب، فعندما يصرح هو بكراهة شيء ما فحمله على أحد المعنيين دون مرجح تحكم مردود.
الفائدة المهمة الثانية هي أنه رحمه الله لم يتعامل مع كراهة رسول الله صلى الله عليه و سلم كما يتعامل أخونا الكريم أعني أنه لم يقل أن الأصل فيها هو الحرمة و حملها عليها بل قال " فاحتمل أن يكون قد حرمه مع ذلك واحتمل أن يكون تركه تنزها منه عن أكله ولم يحرمه فنظرنا في ذلك " أي نظرنا في القرائن التي تقوي أحد الاحتمالين كي نقول به، و هذا بفضل الله ما أقوله منذ وقت طويل للأخ الكريم إلا أنه لم يقتنع حتى الآن مني فهل سيقتنع من الطحاوي رحمه الله؟ آمل ذلك.
الامر الرابع: أن السلف الصالح عامة كانوا يطلقون المكروه على كراهة التحريم , وأحيانا كانوا يقصدون بها كراهة التنزيه ولكن كانوا أكثر ما يطلقونها على الشيء المحرم فكانوا يطلقون المكروه على الشيء المحرم تورعا إذ الأصل عندهم في كلمة مكروه هي للتحريم.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين ...
وقال في بدائع الفوائد (وأما لفظة يكرهه الله تعالى ورسوله أو مكروه فأكثر ما تستعمل في المحرم وقد يستعمل في كراهة التنزيه) انتهى.
فاذا كانت اكثر ما تستخدم للتحريم كما قال ابن القيم وانها قد – وقد تفيد التقليل- تستخدم للتنزيه أفمن العدل أن نحملها على التحريم أم على التنزيه؟
العدل أن تحمل لفظة الكراهة في المواضع التي عنى بها السلف التحريم على التحريم و في المواضع التي عنوا بها التنزيه على التنزيه، و ما عدا ذلك ظلم و تحريف لمعنى كلامهم عن المراد منه.
السؤال المهم هو: عندما يطلق الواحد من السلف لفظ الكراهة على أمر ما فكيف لنا أن نعرف إن كان هذا من المواضع الأكثر التي أراد بها التحريم فيجب حمله على التحريم أو من المواضع الأقل التي أراد بها التنزيه فيجب حمله على التنزيه؟
الأخ الكريم يقول
, أعتقد أن حملها على التحريم هو الصواب الذي لا يقول بخلافه عاقل ,
و في هذا الكلام تعريض بالعبد الفقير كاتب هذه الكلمات كنتُ أتمنى ألا يقع الأخ الكريم فيه و مع ذلك فأنا أحله من تبعته في الدنيا و الآخرة، غفر الله لي و له.
نعم إنني أقول أن الصواب هو بخلاف ما يقوله الأخ الكريم، فالصواب هو النظر في القرائن التي تحف بلفظ الكراهة في كل موضع فإن وجدنا القرائن تدل على التحريم رجحنا أن يكون مراد مطلقه هو التحريم، و إن وجدنا القرائن تدل على التنزيه رجحنا أن يكون مراد مطلقه هو التنزيه، و ليس وراء ذلك عدل أو صواب.
و قد مر معنا قبل قليل صنيع الطحاوي رحمه الله الموافق بفضل الله لما نقول فنحن عندما نقول أنه لا يلزم من قول الطحاوي رحمه الله " فكرهوا صيام السبت " أنه يعني الحرمة فإننا لا نفتري عليه الكذب بل نعامل قوله هذا كما عامل هو رحمه الله كراهة النبي عليه السلام فلم يحملها على معنى واحد هو التحريم بل قال أنها تحتمل الكراهة أو التحريم فبحث فيما بين يديه من أدلة على ما يقوي أحد المعنيين فوجد هذه الأدلة تؤيد كراهة التنزيه فقال بها.
إن مما يرجح أن مراد الطحاوي رحمه الله في عبارته السابقة هو التنزيه ما يلي:
1 - أن الخلاف في هذه المسألة قديم قدم الخلاف حول صحة الحديث، و القولان المشهوران فيها هما الجواز و الكراهة، فلا يتصور أن يهمل الطحاوي ذكر القول المشهور بالكراهة و ينقل القول بالحرمة الذي لم ينقل عن أحد قبله.
2 - كما أنه لم ينقل القول بالحرمة عن أحد قبل الطحاوي فكذلك لم ينقل عن أحد بعده، بل و لم أجد أحداً في أي من الكتب التي تعنى بذكر الخلاف ينقل القول بالحرمة لا عن الطحاوي و لا عن غيره.
ثم الطحاوي رحمه الله ليس من السلف إذ بينه و بين عصرهم طبقتان أو أكثر و هو لم يصرح بأن القائلين بالكراهة في كلامه هم من السلف!
هذا و فرق بين أن نقول أن الأصل في الكراهة عند السلف هو التحريم كما يقول الأخ الكريم و يظن أن هذا معنى كلام ابن القيم في الإعلام و بدائع الفوائد، و بين أن نقول أن الأكثر في كلام السلف أن الكراهة للتحريم و قد تكون للتنزيه كما يقول ابن القيم رحمه الله بالفعل.
¥