فمثلاً: الأصل في الكلام هو الحقيقة فعندما نقول وجه الله، يد الله، عين الله، فهذه على الحقيقة، و لكن قد يطرأ على الكلام ما يصرفه عن الحقيقة لقرينة تحف به كقول الله عز و جل " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ " و المعنى أن الله عز و جل معنا بعلمه لا بذاته كما قد يفهم، و تفصيل ذلك لا يخفى على الأخوة إن شاء الله.
إذاً صرف الكلام عن الحقيقة التي هي الأصل فيه قد يقع و تدل القرائن على وقوعه، فعندما نجد قرينة تدل على صرف الكلام عن الحقيقة نصرفه عنها، لكننا ابتداء لا نبحث في كلام المتكلم عن قرينة تصرفه عن حقيقته و لا نتطلبها من كلام المتكلمين بل إن وقعت صرفنا الكلام عن حقيقته و إن لم تقع فالكلام يبقى على أصله و هو الحقيقة.
و سأضرب مثالاً أرجو أن يتضح به الفرق بين قولنا الأصل في شيء هو كذا، و بين قولنا الأكثر في هذا الشيء هو كذا.
فهذا رجل محسن كريم يزور ابنه في مدرسته و هي مدرسة راقية لا يقدر على تكاليف التعلم فيها إلا الأغنياء، فالأصل أن كل من فيها من الطلاب أغنياء و لا يحتاجون إلى إحسانه فليس من المتصور أن يبحث بينهم عن فقير يحسن إليه، لكنه إن رأى بينهم طالباً بالي الثياب رث الهيئة فهذه قرينة على فقره تدفع الرجل للبحث في حاله إذ ربما كان هذا الطالب فقيراً حقاً و لكنه متفوق فمنحته المدرسة حق التعلم فيها بلا مقابل.
على العكس من ذلك إذا ذهب لمدرسة أخرى بحثاً عمن يمد لهم يد إحسانه ثم قال له المسؤولون فيها إن الأكثر و الغالب على طلابنا أنهم أغنياء فإنه سيسعى للتعرف على بعض هؤلاء الأقل الذين ليسوا بأغنياء و تمييزهم عن الباقين، فحال كل طالب من طلاب هذه المدرسة مجهول بالنسبة له فقد يكون من الغالب الغني و قد يكون من الأقل الفقير، فلو أنه اعتبر أن حال هؤلاء كحال إخوانهم في المدرسة الأولى و أن الأصل فيهم أنهم أغنياء فلن يبحث بينهم عن الفقراء و سيغادر إلى مدرسة أخرى، و لا شك أنه سيكون مخطئاً في ذلك.
نقول هذا مع اننا قد قلنا سابقا في الوجه الاول أن الحديث حجة بنفسه لا يحتاج إلى الاحتجاج به أن يعرف أن أحد من الأئمة عمل به ,
بل ونقول ان من اهل العلم من عمل به ولكن لم نعرفه
كيف لم نعرفه؟ بل قد عرفناه إذ قد عمل به الترمذي و ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و النووي و ابن قدامة ... و غيرهم، بل قد عمل به الجمهور و قد قالوا جميعاً بكراهة إفراد السبت أو تخصيصه بالصوم.
وآخر القول نقول
كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(وكان بعضهم يعذر من خالفه في المسائل الاجتهادية، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه)
القول بحرمة صيام السبت ليس من مسائل الاجتهاد عند ابن تيمية رحمه الله لأنه أقر ابن حزم على نقل الإجماع على أن صائم السبت منفرداً مأجور فهذا الإجماع على كون صيام السبت لا يحرم يخرج هذا القول من دائرة مسائل الاجتهاد
قال رحمه الله
الفتاوى الكبرى [جزء 6 - صفحة 92]
(وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار ... وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ [لم] ينكرعلى من عمل بها مجتهدا أو مقلدا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس - والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد [ما] لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض [له] من جنسه فيسوغ له إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر [أن] المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين)
و قد قال رحمه الله في الفتاوى 21/ 291 " كل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فانه يكون خطأ كما قال الامام أحمد بن حنبل إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"
و المقصود بكلامه رحمه الله المسائل التي وقعت في زمنهم ـ و صيام السبت منها ـ و ليس المقصود الحوادث التي تعرض للناس في الأزمان التالية.
من جهة أخرى فأنا لم أكلف الأخ الكريم أو غيره من إخواننا أن يوافقني فهمي، إلا أنه من الطبيعي أن أناقشه في المسائل التي طرحها و خالفتُه فيها لأبين خطأه، كما فعل هو أيضاً و هذه طبيعة النقاش في الأمور المختلف فيها، فهل يُعدُّ فعله أيضاً تكليفاً لي على موافقته في فهمه؟
ختاماً ... فهذا ما ظهر لي من رد على كلام الأخ الكريم، و إن كنتُ أرى أن أصل الموضوع يتعلق بنقطتين رئيستين أولاهما استدلال الشيخ الألباني رحمه الله على الحرمة و مناقشته فيه، و الثاني إثبات سلف للقول بالحرمة و هو ما كنت قد أجملتُه في مشاركاتي المتأخرة قريباً مع فائدة عزيزة هي نقل الإجماع على أن صائم السبت منفرداً مأجور.
هذا ما أردتُ قوله و الله أعلى و أعلم و رد العلم إليه أسلم و صل اللهم على عبدك ونبيك محمد و على آله و صحبه و سلم
¥