وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟!
قال: أي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة.
فشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره؛ فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه، يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم؛ فيأمر فيها بما يشاء؛ فينزل الأمر من عنده نافذًا،
فيشاهد الملك الحق قيومًا بنفسه، مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه، وكل من سواه فقير إليه، يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويفك عانيًا، وينصر ضعيفًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواما، ويذل آخرين، ويرفع أقواما، ويضع آخرين،
ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره حيث يقول في الحديث الصحيح: يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق، فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى الميزان: يخفض ويرفع.
فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه، وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء عدلاً منه وحكمة، لا إله إلا هو العزيز الحكيم،
فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب فيدخل عليه، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها، أحاط - سبحانه - بها علمًا، ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جودًا وكرمًا، ولا يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، لو اجتمع أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، وقاموا في صعيد واحد، ثم سألوه فأعطى كلا منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة، إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا، ذلك بأنه الغني الجواد الماجد، فعطاؤه كلام، وعذابه من كلام، {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.
ويشهده كما أخبر عنه أيضا الصادق المصدوق حيث يقول: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه.
وبالجملة فيشهده في كلامه فقد تجلى - سبحانه وتعالى - لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرف إليهم فيه، فبعدًا وتبًا للجاحدين والظالمين {أفي الله شك فاطر السموات والأرض} لا إله إلا هو الرحمن الرحيم).
ا. هـ (طريق الهجرتين)
ـ[المعلمي]ــــــــ[11 - 07 - 07, 12:27 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيرا على نقل هذه الفرائد من الفوائد ..
هذه كلمات من نور، خرجت من قلب يفيض إيمانا، يسقي بها ظمأ الحيارى في دياجير البعد عن الله ...
فلله دره من ناصح ولله درك من ناقل ..
ـ[محمود آل زيد]ــــــــ[12 - 07 - 07, 12:36 م]ـ
الأخ الفاضل المعلمي جزاك الله خيرا، وبارك فيك،،،
ومن أجمل كلمات شيخ الإسلام ابن القيم - طيب الله ثراه - وكأنها الدرر قوله:
(وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالا، ولا مقاما، ولا سببا يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، بل
يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والافلاس المحض، دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز و جل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك، وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى!
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل، وذل تام. ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما: مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام.
وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غره وغفلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز و جل ويجبره ويتداركه برحمته.)
الوابل الصيب (12، 13)
ـ[محمد عامر ياسين]ــــــــ[17 - 08 - 07, 03:18 ص]ـ
جزاك ربي خيراً ..
موضوع قريب من هذا ..
بعنوان
الركن القيم لروائع ابن القيم
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=106167
¥