وأما تفريقه في العدة بين الموت والطلاق، وعدة الحرة وعدة الأمة، وبين الاستبراء والعدة، مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله، فهذا إنما يتبين وجهه إذا عرفت الحكمة التي لأجلها شرعت العدة وعرف أجناس العدد وأنواعها.
[الحكم في العدة] فأما المقام الأول ففي شرع العدة عدة حكم: منها العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد، فتختلط الأنساب وتفسد وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعة والحكمة.
ومنها تعظيم خطر هذا العقد، ورفع قدره، وإظهار شرفه.
ومنها تطويل زمان الرجعة للمطلق؛ إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنا يتمكن فيه من الرجعة.
ومنها قضاء حق الزوج، وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد.
ومنها الاحتياط لحق الزوج، ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه؛ ففي العدة أربعة حقوق، وقد أقام الشارع الموت مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه؛ فإن النكاح مدته العمر، ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق، وفي تحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت وأحمد في إحدى الروايتين عنه؛ فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم، بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها.
[أجناس العدد] المقام الثاني في أجناسها، وهي أربعة في كتاب الله، وخامس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنس الأول: أم باب العدة، {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الثاني: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} الثالث: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} الرابع: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} الخامس: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة} ومقدم هذه الأجناس كلها الحاكم عليها كلها وضع الحمل، فإذا وجد فالحكم له، ولا التفات إلى غيره، وقد كان بين السلف نزاع في المتوفى عنها أنها تتربص أبعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل؛ وأما عدة الوفاة فتجب بالموت، سواء دخل بها أو لم يدخل، كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس؛ فإن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءه استقرت به الأحكام: من التوارث، واستحقاق المهر، وليس المقصود بالعدة ها هنا مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء؛ لوجوبها قبل الدخول، ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة، ولاستواء الصغيرة والآيسة وذوات القروء في مدتها، فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: هي تعبد محض لا يعقل معناه، وهذا باطل لوجوه: منها أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه.
ومنها أن العدد ليست من باب العبادات المحضة
فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية، ولا تفتقر إلى نية.
ومنها أن رعاية حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها؛ فالصواب أن يقال: هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل، ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ورعاية حقوقه تحريم نسائه بعده، ولما كانت نساؤه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعا، لم يحل لأحد أن يتزوج بهن بعده، بخلاف غيره؛ فإن هذا ليس معلوما في حقه، فلو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررا محققا بغير نفع معلوم، ولكن لو تأيمت على أولادها كانت محمودة على ذلك.
وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربص سنة في شر ثيابها وحفش بيتها، فخفف الله عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحمة وحكمة ومصلحة ونعمة، بل هي من أجل نعمه عليهم على الإطلاق، فله الحمد كما هو أهله.
وكانت أربعة أشهر وعشرا على وفق الحكمة والمصلحة؛ إذ لا بد من مدة مضروبة لها، وأولى المدد بذلك المدة التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه؛ فإنه يكون أربعين يوما نطفة، ثم أربعين علقة، ثم أربعين مضغة فهذه أربعة أشهر، ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع، فقدر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل.
¥