39. قد يقول قائل إن الأمة كانت أمية لا تكتب ولا تحسب, وأما الآن فإنها صارت تكتب وتحسب, وانتفت العلة فنرجع إلى الحساب؟ نقول: لا, هذا وصف الأمة وإن وُجِد فيها من يكتب ويحسب. يقول الله جل وعلا (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) , والرسول عليه الصلاة والسلام أمي, فالأمة أمية بالخبر النبوي الصادق وإن كتبت وإن قرأت.
40. شيخ الإسلام وغيره نقلوا الإجماع على أنه لا يُعَوَّل على الحساب, والمعوَّل إنما هو على ما جاءنا في النصوص الصحيحة من الوسائل الشرعية المعتبرة التي تترتب عليها نتائجها, وإذا فعلنا ما أُمِرنا به فإنا لا نُكَلَّف أكثر من ذلك.
41. سواء خرجت النتائج صحيحة أو غير صحيحة لسنا مطالبين بأكثر من العمل بالوسائل الشرعية في إثبات الأهلة, كما أن القاضي ليس مطالباً بأكثر من النظر في المقدمات والوسائل والبينات, وليس عليه أكثر من هذا.
42. لا يُمنَع من استعمال المراصد والمكبرات, لكنها ليست بلازمة, فلو أن الأمة لم تستعمل هذه الأمور لم تأثم, لأن الرؤية لها وسائلها الشرعية, ونتائجها شرعية, ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
43. قد يقول قائل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فيجب استعمال المراصد والمكبرات لأنا لا نستطيع الرؤية إلا بواسطتها؟ نقول: الرؤية ممكنة في كل زمان وفي كل مكان من غير استعمال لهذه المراصد. لكن إن استعملت - وكان دورها توضيح الموجود فقط لا إيجاد ما لم يكن موجوداً - فلا مانع من استعمالها كما تُستَعمل النظارات ومكبرات الصوت. وأما أن تكون على سبيل الإلزام فلا, لأن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها, ومسائل الشرع مبنية على ما يطيقه كل مسلم. الأصل أن الرؤية بالعين المجردة, لكن لا بأس من استعمال ما يعين على توضيح المرئي لا على سبيل الإلزام.
44. الجمهور والأكثر على أن الأمر في الحديث متجه لمجموع الأمة, فإذا رأى الهلال من يثبت الحكم برؤيته من مجموع الأمة فإنه يلزم جميع الناس الصيام, وإذا رؤي الهلال في المشرق لزم أهل المغرب الصيام أو العكس, وهذا القول مبني على القول باتحاد المطالع, والحديث محتمل.
45. القول الثاني هو القول بأن المطالع مختلفة, ولكل إقليم مطلع يخصه, وعمدة هذا القول حديث ابن عباس في صحيح مسلم, وفيه أن كريباً جاء من الشام وقد صام يوم الجمعة لأنهم رأوا الهلال في الشام ليلة الجمعة, فلما جاء إلى المدينة وبعد أن أكمل الثلاثين قال لابن عباس إن معاوية والناس صاموا يوم الجمعة, فقال له ابن عباس (لكننا لم نره إلا ليلة السبت, فإما أن نرى الهلال أو نكمل العدة ثلاثين, هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وحديث الباب محتمل, وحديث ابن عباس كالنص على اختلاف المطالع, لأنه رأى أن رؤية معاوية في الشام لا تلزِم أهل المدينة بالصيام لاختلاف المطالع, ويتأكد ذلك بقوله (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). لكن الذي يرد على هذا: هل أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بنص خاص يدل على اختلاف المطالع؟ أو أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) الذي يستدل به الجمهور, فيكون هذا من اجتهاد ابن عباس المستند إلى النص العام الذي يستدل به الجمهور؟ لكن ظاهر استدلاله على كريب - وهو أنهم غير ملزمين برؤية معاوية والناس - أن هناك نص خاص, لكنه لم يبين هذا النص, والاحتمال قائم أنه استند إلى حديث (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).
46. القول باختلاف المطالع مع وجود الحدود السياسية بين الدول ووجود الاختلاف في وسائل الإثبات بينها يوجِد إشكالاً كبيراً لأنها خلاف الأصل, فمثلاً: الشام أقرب إلى أهل الجهات الشمالية من الرياض, واليمن أقرب إلى أهل نجران من الرياض.
47. على القول باتحاد المطالع: وسائل الإثبات تتفاوت والثقة تتفاوت أيضاً من بلد إلى بلد ومن عرف إلى عرف, لأن الثقة مبناها على التقوى والمروءة, والتقوى قد تكون منضبطة إلى حدٍّ ما, لكن المروءة يختلف حدها من عرف إلى عرف.
¥