92. حديث أبي هريرة (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال, فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ قال: وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. فلما أبوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال, فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم. كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا): الوصال هو صوم أكثر من يوم دون أن يتخلل ذلك فطر في الليل.
93. قوله (فقال رجل من المسلمين): هذا الرجل لم يُوقَف على اسمه, ومثل هذا يُترَك ذكره لأنه لا يترتب على ذكره فائدة.
94. قوله (فإنك يا رسول الله تواصل؟): الحاجة داعية إلى مثل هذا السؤال, لأن فعله تشريع وقوله تشريع, فليس هذا من سوء الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام, بل هو سؤال استفهام (بأيهما نعمل؟ بالقول أم بالفعل؟).
95. قوله (إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني): المرجح عند ابن القيم أن هذا الطعام والشراب ما يُفاض عليه من الغذاء الروحي من الله جل وعلا, ولا شك أن الإنسان إذا استغرق في قراءة نافعة يحس من نفسه في بعض الأوقات أنه ليس بحاجة إلى طعام ولا إلى شراب, ولو قدم له الطعام قبل أن يشرع في هذه القراءة لاشتاق إليه, وهذه لذة يدركها الناس كلهم وطلاب العلم على وجه الخصوص.
96. الكلام لابد له من حقيقة, والأصل الحقيقة, خلافاً لمن يقول بالمجاز, والذي يقول بالمجاز لا إشكال عنده في هذا الحديث إطلاقاً, لأنه يقول إنه أطلق عليه الطعام مجازاً.
97. الأكل الحسي تتفق فيه الحقائق الثلاث: الشرعية واللغوية والعرفية.
98. نريد أن نطبق الحقائق الثلاث التي لا رابع لها على الطعام والشراب المذكور: لا يوجد في لغة العرب طعام وشراب غير المأكول والمشروب, ولا يوجد في عرف الناس طعام وشراب غير المأكول والمشروب, فكيف يتخلص من هذا الإشكال من يقول بعدم المجاز؟.
99. الجواب: قد تأتي الحقيقة الشرعية لأكثر من معنى, فالمفلس له حقيقة شرعية في باب الترهيب من ظلم الناس, وهذه الحقيقة جاءت في الحديث الصحيح (أتدرون من المفلس؟) وله حقيقة شرعية أخرى في باب الحجر والتفليس وهو الذي لا درهم له ولا متاع, وهنا نقول: للأكل والشرب أكثر من حقيقة شرعية. لأن مثل هذا النص يُلزِم به من يقول بالمجاز, يقول: أليست الحقائق الثلاث كلها تكون للأكل والشرب المحسوسين؟ نقول: نتفق على هذا, لكن نقول وأيضاً من حقيقته الشرعية الأكل المعنوي, لأنه لو كان لا يثبت الوصال مع الأكل الحسي, فهو أكل معنوي, وهذا الأكل المعنوي حقيقة شرعية بدلالة هذا النص.
100. يقول ابن القيم: المراد ما يغذيه الله به من معارف ويفيض على قلبه من لذة المناجاة وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه. ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة, فهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
101. الحديث فيه دليل على أن الوصال من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام.
102. الأصل في النهي التحريم, لكن حمله كثير من أهل العلم في هذا الحديث على الكراهة, لأن النبي عليه الصلاة والسلام واصل بهم, لأنه لو كان الوصال محرماً ما أُدِّبوا بهذا المحرم, فلما أُدِّبوا به عُرِف أنه جائز لكنه خلاف الأولى, ويكون هذا صارف للنهي من التحريم إلى الكراهة.
103. من أهل العلم من يرى أن الأمر أوالنهي إذا جاء من أجل الشفقة على المأمور أو على المنهي فهو على الاستحباب في الأمر وعلى الكراهة في النهي.
104. قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو (اقرأ القرآن في سبع ولا تزد): هذا النهي من باب الشفقة عليه مع جواز غيره, فيكون النهي للكراهة, وعامة أهل العلم على أنه تجوز قراءة القرآن في أقل من سبع, وكأنهم جعلوا الصارف أن النهي كان من باب الشفقة.
105. جاء الترخيص بالوصال إلى السحر, كما في قوله عليه الصلاة والسلام (فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) , وهذا أسلوب لا يدل على الاستحباب, وإنما يدل على الترخيص, وذلك لمخالفته تعجيل الفطر.
106. الوصال إلى السحر سماه النبي عليه الصلاة والسلام وصالاً, لكنه وصال نسبي, فهو وصال لهذه المدة الطويلة, وليس وصالاً بين يومين متواليين.
¥