173. مراتب القصد متفاوتة, فالعزم أقوى من مجرد الهم, والهم أقوى من مجرد حديث النفس, وحديث النفس أقوى من الهاجس, والهاجس أقوى من الخاطر. والعزم فيه بذل للأسباب.
174. حديث جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان, فصام حتى بلغ كراع الغميم, فصام الناس, ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب, ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام, فقال: أولائك العصاة, أولائك العصاة): خرج عام الفتح لعشر خلون من رمضان.
175. قوله (فصام حتى بلغ كراع الغميم): يعني صام من خروجه إلى أن بلغ كراع الغميم, وهو وادٍ أمام عسفان, وفي بعض الروايات (حتى بلغ عسفان) , وفي رواية (حتى بلغ الكَديد) , وهي أماكن متقاربة يشملها عسفان, والبقية من أعماله, فلا اختلاف.
176. كراع الغميم على ثلاث مراحل من المدينة, وقطع هذه المسافة يحتاج إلى أيام, فهل هذا اليوم الذي أفطر فيه لما بلغ كراع الغميم بدأ في صيامه في المدينة أو بدأ صيام هذا اليوم في أثناء السفر؟ وإن قيل إنه بدأ صيام هذا اليوم في أثناء السفر فمن باب أولى أنه صام الأيام التي قبله. فما الفرق بين أن يبدأ الصيام في السفر أو يبدأه في الحضر؟ من أهل العلم من يرى أنه إذا شهد أول اليوم في الحضر ليس له أن يفطر, ومنهم من يرى أنه إذا صام أول النهار في الحضر ثم تلبس بالسبب المبيح للفطر له أن يفطر سواء بدأ الصيام في السفر أو في الحضر, فنحتاج مثل هذا التفصيل لمعرفة منشأ القولين.
177. صام النبي عليه الصلاة والسلام في السفر, وصام الصحابة رضي الله عنهم في السفر بصحبته عليه الصلاة والسلام, وكان منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا الصائم على المفطر, فالصوم في السفر صحيح.
178. بعضهم أبطل الصيام في السفر وقال إنه لا يجزئ لأن الله تعالى يقول (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) أي يلزمه العدة, وإذا لزمته العدة لزمه البدل, ولا يجمع بين البدل والمبدل منه, لكن الجمهور يقدِّرون في الآية فيقولون (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر) أي لا يجب عليه عدة إلا إذا أفطر, وهذا التقدير لا بد منه بدلالة الأحاديث الصحيحة الصريحة.
179. أفطر النبي عليه الصلاة والسلام بمرأى الناس, فدل على جواز الفطر في أثناء النهار في رمضان إذا قام السبب المبيح للفطر.
180. السفر مأخوذ من الإسفار وهو البروز والوضوح والظهور, ومنه السفور بالنسبة للمرأة التي تبرز شيئاً مما يجب تغطيته. فالسفر الأصل فيه البروز, فلا ينطبق الوصف حتى يسفر ويخرج عن البلد ويبرز عنه ويتلبس بالوصف المبيح للفطر.
181. قوله تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) وقوله عليه الصلاة والسلام (أولائك العصاة, أولائك العصاة) وقوله (ليس من البر الصيام في السفر): يستدل بذلك من لا يرى الصوم في السفر, لكن الجمهور الذين يرون الصوم في السفر - على خلاف بينهم في الأفضل الصيام أو الفطر - يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت بالنص القطعي أنه صام في السفر وصام الصحابة معه, فلا بد من حمل قوله (أولائك العصاة) وقوله (ليس من البر الصيام في السفر) على حالة معينة للتوفيق بين النصوص, فتحمل هذه النصوص على من شق عليه الصيام, ومن لا يشق عليه الصيام بحال الأفضل في حقه أن يصوم لعموم قوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم) , ومن تلحقه مشقة مثل المشقة اللاحقة بالحاضر أو تزيد عنها قليلاً يخير بين الصيام والفطر, والفطر أفضل إذا زادت المشقة, وإذا زادت المشقة بحيث يحصل معها حرج فـ (أولائك العصاة) و (ليس من البر الصيام في السفر).
182. في لفظ (إن الناس قد شق عليهم الصيام, وإنما ينظرون فيما فعلت, فدعا بقدح من ماء بعد العصر, فشرب): بعض الناس يشق عليه الصيام, لكنه يكمل الصيام بحجة أن المدة الباقية على غروب الشمس يسيرة, فهل يقال إن المشقة اللاحقة له بالقضاء أشد من المشقة اللاحقة له بهذه المدة اليسيرة فيستمر صائماً ولو شق عليه الصيام؟ لأن القضاء على بعض من لم يتعود على الصيام أشد من نقر الجبل, لكن لا شك أنه إذا شق عليه الصيام أثناء السفر بحيث يتضرر بالصوم فلا شك أنه عاصٍ إذا استمر في صيامه, ولذا أفطر النبي عليه الصلاة والسلام, وقال بالنسبة لمن شق عليهم الصيام (أولائك العصاة, أولائك العصاة).
183. من شرع في الصيام في الحضر ثم طرأ عليه السفر: كثير من أهل العلم يرون أنه ليس له أن يفطر, وأجاز الإمام أحمد وجمع من أهل العلم أن يفطر لأنه تلبس بالسفر والسبب قائم.
184. حديث حمزة بن عمرو الأسلمي (يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر, فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله, فمن أخذ بها فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه): وفي رواية (إني أسرد الصوم).
185. قوله (هي رخصة من الله): قال الله تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر) , والأصل أن من استطاع الصيام يلزمه الصيام لقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) , ومن لم يشهد بأن كان مسافراً جاءت الرخصة في حقه.
186. قوله (هي رخصة من الله, فمن أخذ بها فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه): هذا النص يدل على أن الفطر أفضل من الصيام, لأن كون الشيء حسناً أفضل من رفع الجناح عنه.
¥