لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأف لمن باع لذة المناجاة بفضل لقمة
(يا من لحشا المحب بالشوق حشا ... ذا سر سراك في الدجا كيف فشا)
(هذا المولى إلى المماليك مشى ... لا كان عيشا أورث القلب غشا)]
قال العيني في عمدة القاري: [لفظ (أبيت أُطعم وأُسقى) يجوز أن يكون ظل على بابه ويكون المعنى: أظل أطعم وأسقى لا على صورة طعامكم وسقيكم لأن الله تعالى يفيض عليه ما يسد مسد طعامه وشرابه من حيث إنه يشغله عن إحساس الجوع والعطش ويقويه على الطاعة ويحرسه عن تحليل يفضي إلى ضعف القوي وكلال الحواس.
فإن قلت: هل يجوز أن يكون المعنى على ظاهره بأن يرزقه طعاما وشرابا من الجنة؟
قلت: قد قيل ذلك ولا مانع منه؛ لأنه أكرم على الله من ذلك.
فإن قلت: لو كان المعنى على حقيقته لم يكن مواصلا.
قلت: طعام الجنة وشرابها ليس كطعام الدنيا وشرابها فلا يقطع الوصال وقيل هو من خصائصه لا يشاركه فيه أحد من الأمة)
وقال ايضاً: [قوله (إني أطعم وأسقى): اختلف في تأويله، فقيل: إنه على ظاهره وأنه يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يتناولهما فيكون ذلك تخصيص كرامة لا شركة فيها لأحد من أصحابه. ورد صاحب (المفهم) هذا، وقال لأنه لو كان كذلك لما صدق عليه قولهم إنك تواصل ولا ارتفع اسم الوصال عنه لأنه حينئذ يكون مفطرا وكان يخرج كلامه عن أن يكون جوابا لما سئل عنه ولأن في بعض ألفاظه (إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني) وظل إنما يقال فيمن فعل الشيء نهارا وبات فيمن يفعله ليلا وحينئذ كان يلزم عليه فساد صومه وذلك باطل بالإجماع
وقيل: إن الله تعالى يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب.
واعترض صاحب (المفهم) على هذا أيضا وقال: وهذا القول أيضا يبعده النظر إلى حاله فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجارة من الجوع وبعده أيضا النظر إلى المعنى وذلك لأنه لو خلق فيه الشبع والري لما وجد لعبادة الصوم روحها الذي هو الجوع والمشقة وحينئذ كان يكون ترك الوصال أولى.
وقيل: إن الله تعالى يحفظ عليه قوته من غير طعام وشراب كما يحفظها بالطعام والشراب فعبر بالطعام والسقيا عن فائدتهما وهي القوة وعليه اقتصر ابن العربي وحكى الرافعي عن المسعودي قال أصح ما قيل في معناه أني أعطى قوة الطاعم والشارب)
وقال ابن الجوزي في (كشف المشكل من الصحيحين): (وقد ذكر العلماء في معنى كونه يطعم ويسقى وجهين: أحدهما: أنه يحتمل أن يخص بطعام وشراب حقيقة ولا يفسد صومه كما يغط في نومه ولا ينتقض وضوءه فيكون هذا مضافا إلى خصائصه التي أكرم بها.
والثاني: أنه يحتمل أن يكون المعنى إني أعان وأقوى فيكون
ذلك بمنزلة الطعام والشراب)
قال البسام في شرح العمدة: (اختلفوا في الطعام والشراب المذكورين على قولين:
أحدهما:- أنه طعام وشراب حسِّيٌ تمسُّكاً باللفظ.
والثاني:- أنه ما يفيض على قلبه من لذيذ المناجاة والمعارف، فإنَّ توارد هذه المعاني الجليلة على القلب، يشغله عن الطعام والشراب فيستغني عنهما.
ولو كان طعاماً حسِياً لم يكن مواصلاً، ولم يقل: "لست كهيئتكم" وقد بسط القول فيه "ابن القيم" في الهدي.)
قال ابن القيم في (المدارج) في [منزلة الذوق]: (ولما نهاهم عن الوصال قالوا إنك تواصل قال "إني لست كهيئتكم إني أطعم واسقى" وفي لفظ "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" وفي لفظ "إن لي مطعما يطعمني وساقيا يسقيني"
وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائما فضلا عن أن يكون مواصلا!
ولما صح جوابه بقوله إني لست كهيئتكم فأجاب بالفرق بينه وبينهم.
ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حسا لكان الجواب أن يقول وأنا لست أواصل أيضا فلما أقرهم على قولهم إنك تواصل علم أنه كان يمسك عن الطعام والشراب ويكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي
وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة حيث قال لأبي سفيان فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فقال لا قال وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب
فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب لم يسخطه ذلك القلب أبدا على أنه دعوة نبوة ورسالة لا دعوى ملك ورياسة
¥