وها هو ذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قد استقبله السلطان الناصر قلاوون في مجلسه بحفاوة بالغة، وعندما عرض على السلطان بعض الأموال للترخص في تنفيذ أحكام أهل الذمة، لم يمنعه ذلك من إنكار ذلك والمبالغة فيه، يقول ابن عبد الهادي:
إن الوزير فخر الدين بن الخليل "أنهى إلى السلطان أن أهل الذمة قد بذلوا للديوان في كل سنة سبعمائة ألف درهم زيادة على الجالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض المعلمة بالحمرة والصفرة والزرقة، وأن يعفوا من هذه العمائم المصبغة كلها بهذه الألوان التي ألزمهم بها ركن الدين الشاشنكير
فقال السلطان للقضاة ومن هناك: ما تقولون؟
فسكت الناس، فلما رآهم الشيخ تقي الدين سكتوا، جثا على ركبتيه وشرع يتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، ويرد ما عرضه الوزير عنهم ردا عنيفا، والسلطان يسكته بترفق وتؤدة وتوقير، فبالغ الشيخ في الكلام وقال مالا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه، حتى رجع السلطان عن ذلك وألزمهم بما هم عليه واستمروا على هذه الصفة فهذه من حسنات الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله "
الحسبة بين الإسرار والإعلان:
تختلف موضوعات الحسبة كما يختلف أحوال المُحتسَب عليهم، فقد تكون الحسبة في أمر معلوم حكمه، كما قد تكون في أمر يدخله الاجتهاد، وقد يكون المُحتسب عليه ممن يقبل النصح وينتفع به وقد يكون ممن لا يرعوي وتأخذه العزة بالإثم، ومن هنا يختلف الإسرار والإعلان بحسب ذلك ولا يجري فيه الأمر على منوال واحد، والأمر في الإسرار والإعلان يدور على المصلحة، فليس الإعلان دائما مفسدة وليس الإسرار دائما مصلحة كما أن الإعلان ليس دائما مصلحة والإسرار ليس دائما مفسدة، وذلك يقدره العلماء العاملون، وليس الأغمار.
فإذا كان موضوع الحسبة من الأمور المعلوم حكمها، أو كان المحتسب عليه ممن لا يقبل النصح ولا يلقي له بالا، أو كان الأمر المحتسب فيه يتعلق بالعامة وليس بشخص المحتسب عليه، فقد يكون الإسرار في ذلك مفسدة تؤدي إلى شيوع المنكر بلا مدافعة ولا نكير، ويكون من المصلحة الإعلان بذلك لتقرير الحق وبيانه، وحتى يعلم الناس أن أهل العلم لا يداهنون ولاتهم، فلا يفقدون الثقة فيهم، وقد تحمل الوقائع التي أعلن المحتسب فيها حسبته على ذلك الوضع.
وإذا كان موضوع الحسبة من الأمور التي يمكن أن يدخلها الاجتهاد أو كان المحتسب عليه ممن يقبل النصح وينتفع به، أو كان الأمر المحتسب فيه مسألة شخصية تتعلق بالمحتسب عليه ولا تتعلق بأمر العامة، فقد يكون في الإعلان بذلك مفسدة تؤدي إلى خلل واضطراب واجتراء الناس على ولاتهم، ويكون من المصلحة الإسرار بذلك، وقد تحمل الوقائع التي أسر فيها أهل العلم على ذلك الوضع، فإن الهدف والغاية من الاحتساب هو جريان الأمور على وفق الشريعة ونظامها، فمتى أمكن حصول ذلك باليسير لم يكن من السنة اللجوء إلى العسير، ولعل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه" الذي رواه عياض بن غنم يحمل على ذلك، فإن النصيحة قد تكون في الأمور المجتهد فيها وليس فيها إنكار أكثر من بيان الصواب، بعكس الإنكار الذي من مراتبه اليد والزجر والنهر وغير ذلك وعليه أيضا يحمل كلام أسامة رضي الله تعالى عنه لما قيل له: " لو أتيت فلانا-يعنون بذلك عثمان رضي الله تعالى عنه- فكلمته. قال: إنكم لترون أنى لا أكلمه إلا أسمعكم، إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه"، وعثمان الخليفة يومئذ، فبين لهم أنه كلمه فيما أشاروا به لكن كما قال ابن حجر: "على سبيل المصلحة والأدب في السر بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنة أو نحوها"، وذلك أن الأمور المتكلم فيها هي من قبيل الأمور الاجتهادية وليست من المنكرات، وعثمان رضي الله تعالى عنه خليفة راشد يقبل النصح والإشارة ممن جاء بها إذا تبين له فيها الصواب.
ـ[النذير1]ــــــــ[28 - 09 - 07, 01:42 ص]ـ
بحث ماتع،
أحسنت، جزاك الله خيرا
ـ[محمد بن شاكر الشريف]ــــــــ[29 - 09 - 07, 06:48 م]ـ
وإياكم أخي الكريم النذير1
ـ[أسامة]ــــــــ[01 - 10 - 07, 12:16 م]ـ
جزاك الله خيرا على ما بينته، و مما يشهد لما ذكرته من الإنكار على الولاة علانية لمصلحة راجحة ما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله من إنكار أحد الصحابة على أحد ولاة بني أمية و هو يخطب في المنبر يوم الجمعة لما رفع يديه في الدعاء فقال للناس منكرا عليه: ((انظروا إلى هذا الحمار ما يصنع ... )) الحديث، و فيه التغليظ بالإنكار على من خالف السنة أمام الناس إذا أمنت الفتنة.
و كذلك من هذا الباب إنكار علي على عثمان أمره الناس بإفراد الحج، فأنكر عليه أمام بعض الناس حتى أخذ عثمان يعتذر بأنه لم يلزمهم بذلك وإنما أراد الأفضل لهم.
و منه إنكار سلمان رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه لبسه ثوبين دون الناس، و كذلك إنكار المرأة عليه في قضية المهور إن صح الحديث، و إنكار عبادة بن الصامت رضي الله عنه على معاوية في زمن عثمان بعض الأمور حتى شكاه معاوية إلى عثمان فأقر عثمان عبادة على ما صنعه و لم يجعل لمعاوية عليه ولاية، و منه إنكار الحسن صنيع الحجاج لما رآى الناس فتنوا بقصر بناه، و ما يزال الأئمة ينكرون على الولاة ظلمهم للناس و ما يقعون فيه من منكرات كل بحسب قدرته، و لا يتعارض هذا مع الأمر بالسمع و الطاعة و لزوم الجماعة، ولذا جمع بينهما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه كما هو معلوم، ولكن بعض الناس توهموا أن إعلان النكير على الولاة يقتضي الخروج عليهم أو وقوع الفتنة بكل حال، وهذا غلط مخالف لما عليه السلف و الأئمة و لما دلت عليه النصوص التي قدمتم بعضها جزاكم الله خيرا، و هؤلاء الغالطون تمسكوا بالمتشابه من قول أسامة رضي الله عنه و تركوا المحكم من نصوص الشريعة و الآثار المتكاثرة عن العلماء سلفا و خلفا، و لم يفرقوا بين الإنكار الشرعي و بين الإنكار البدعي و التهييج و إثارة الفتن، و الله الموفق للصواب.
شكر الله لكم لبيانكم هذه القضية، وأسأل الله أن يزيدكم وإيانا من فضله.
¥