تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم يقول رحمه الله: "وكانت من عادات السلف الحسبة على الولاة قاطعا بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، وكل من أمر بالمعروف، وإن كان المتولى راضيا فذلك، وإن كان ساخطا فسخطه عليه منكر يجب الإنكار عليه، وكيف يحتاج إلى إذنه، ويدل على ذلك سنن السلف في الإنكار على الأئمة كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل الصلاة في العيد، فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة فقال: مروان ترك ذلك يا أبا فلان، فقال له أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، قال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من رأى منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"

فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحته فكيف يحتاج إلى إذنهم؛ لأن الحسبة عبارة عن المنع من منكر لحق الله صيانة للممنوع عن مقارنة المنكر

وعن سفيان الثوري قال: حج المهدي في سنة ست، وستين، ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة، والناس محيطون به يمينا، وشمالا يضربون الناس بالسياط فوقفت فقلت: يا حسن الوجه حدثنا أيمن بن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال:" رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرمي جمرة يوم النحر على جمل لا ضرب، ولا طرد، ولا جلد، ولا إليك إليك"، وها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا وشمالا، فقال لرجل: من هذا؟

قال: سفيان الثوري،

فقال: يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هَذَا

فقال: لو أخبرك المنصور بما لقي لقصرت عما أنت عليه،

قال: فقيل له، لم قال لك: يا حسن الوجه، ولم يقل يا أمير المؤمنين، فقال: اطلبوه فطلبوه فلم يجدوه، واختفى".

ولم يزل على هذا النهج كثير من العلماء ممن حفلت بذكرهم كتب التراجم والتاريخ فها هو ذا علي بن محمود بن علي القاضي قال عنه الذهبي: شيخ فقيه إمام عارف بالمذهب موصوف بجودة النقل حسن الديانة قوي النفس ذو هيبة ووقار بنى الأمير ناصر الدين القيمري مدرسة بالحريميين وفوض تدريسها إليه وإلى أولي الأهلية من ذريته وقد ناب في القضاء عن ابن خلكان، وتكلم بدار العدل بحضرة الملك الظاهر عندما اختاط على الغوطة فقال: الماء والكلأ والمرعى لله لا يُملك، وكل من في يده ملك فهو له، فبهت السلطان لكلامه، وانفصل الموعد على هذا المعنى"

وها هو ذا النووي يقول عنه السخاوي: " وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار لا يأخذه في الله لومة لائم، بل كان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها"، وقد كتب ورقة إلى السلطان الظاهر بيبرس تتضمن العدل في الرعية، وإزالة المكوس عنهم، وكتب معه في ذلك غير واحد من الشيوخ وغيرهم، فلما وقف السلطان على الورقة، جاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد لهم فكتب له النووي جوابا مطولا وكان مما جاء فيه: " وجميع ما كتبناه أولاً وثانياً وهو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية، وليس فيه ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا بأنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الرفق بالرعية والشفقة عليهم، وإكرامه لآثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبنا" ثم قال: " وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به، وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟

وأما أنا في نفسي، فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب عليّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى: (إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار)، (وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد)، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا، وأن لا نخاف في الله لومة لائم.

ونحن نحب للسلطان معالي الأمور وأكمل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سبباً لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره له على ممر الأيام، ويُخلّد في سُننه الحنيفية، ويجد نفعه (يوم تجد كلُّ نفس ما عملتْ من خير محضَراً".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير