إن كانت عصيَّة على الرجال أطمعتهم فيها بشرفٍ وعزٍّ نوال، وإن كانت سهلةً عليهم، أجاءَها إليهم رخيصُ النَّوال،’
والأمُّ الصالحة
تبني القلاع والحصون، وتعلي صروح العلم والمعرفة، وتشق الأنهر في الصخور القاسية القوية، وتزرع الأرض بالزروع والثمار الشهية،’
وتمسك بحبال النُّجوم والكواكب القصيَّة، وتسقي الجدب بندى الحبِّ، وهي لابثةٌ في كسر بيتها راضية مرضيَّة،’
وتستمطر السماءَ وهي جاثية على ركبتيها تناغي طفلها في جنح الليل والظلمة الخفيَّة.
(21)
أي بُني,’
خلِّ ما بينك وبين اللهب التقوى، وخلِّ ما بينك وبين العباد بالحذر،’
وإن عراكَ فيهم رجاءٌ، فلا تعجل إليهم بحسن الظنِّ واستبطن قلوبهم بالتوكُّل على الله،’
أما ظاهرهم فخذ منه اليسير اليسير،’
وإياكَ إياكَ
والإغراق في الإحسان إليهم بحسن الظنِّ فيهم، فلعلك تفجع يوماً في واحدٍ أكثرت من الإحسان إليه،’
فيزهدك في الإحسان إلى من يستحق منك الإحسان، حتى ولو كنت مقيماً عليه، فيذهب عنك الأجر، ولا ينالك من بعد إلا
التعب والنصب،’
وإن أردت أن تريح وتستريح، فتعلَّم أن تدع للآخرين كل ما يريدون منك، ويحملونك عليه من غير أن تنتظر منهم شكوراً أو جزاءً،’
وإن حدَّثوا أنفسهم أن يصنعوا معك معروفاً، فقل لهم معزِّياً من قبل أن يظهروه,’
عظَّم الله أجركم.
(22)
أي بُني,’
حسنٌ أن يذكِّر العبد نفسه الموت، وأن يكثر من ذكره
في نفسه،’
لكن خيرٌ من ذلك أن يتعلَّم العلم الذي إذا انتهى أجله، يكون قد انتهى إليه، وهو على حيطةٍ يعرف بها حقَّ الموت عليه،’
إذ الموت لحظة سريعة، لا يطول وقوف المرءِ عندها،’
وهو في حاجةٍ دائمةٍ ما دام حيَّاً أن يعرف حقَّ الحياة عليه، وأنها رحلةٌ يجب أن يدأب فيها على الاستعداد لتلك اللحظة السريعة الخاطفة،’
وهي التي يجتمع فيها أمر الإنسان كلُّه، فيرى منها مكانه،’
فأحسن لنفسك أي بُني،’
أن تكون عارفاً قدر نفسك، ثم أن تحيط علماً بما تحسن فتأتيه من قبل أن يفوتك،’
وما لا تحسن فتصرفه عنك بودع أسبابه واجتنابها.
(23)
أي بُني,’
اعلم أن أهل القرآن هم أهل صُفَّة الرحمن، ينَعِّمهم الله فيها بالنظر إليهم غدوَّاً وعشيَّاً وحين يظهرون،’
فمن نازعهم فيها ليخرجهم منها، سلَّط الله عليه من لا يتَقيه فيه فيرديه،’
وما زال الناس في خيرٍ ما قدَّموا أهل القرآن،’
فلما أخَّروهم أخَّرهم الله، وأحلَّهم دار الهوان،’
فهل لهم أن ينجوا أنفسهم بكرامة أهل القرآن؟!
فأهل القرآن هم أهل كرامة الرحمن.
(24)
أي بُني,’
اعلم أن الناس لا ينتقصون بالموت، بل بانتقاصهم في دينهم،’
والانتقاص في الدين لا يكون حين يأتي عليه كلِّه، بل يكون حين يبدأُ،’
والعاقل من يدَّاركُ دينه من قبل أن يكون انتقاص،’
فالله قد حفظ لنا الدين، فلا يكون منَّأ حيف عليه على غير ما أراد الله له سبحانه له،’
وانتقاص الدين كالدَّاءِ، يبدأُ قليلاً، ثم يتكاثر بإهماله، حتى يغرق من يصيبه،’
فيرى المنكر معروفاً،’
وغير مستنكر ولا مستبشع،’
ثم لينظر الأول ما كان من أمره بصبره على الانتقاص،’
وتركه يغدو ويروح فيه، من ظنٍّ حسن في نفسه، أنَّه لا يؤْذي غيره بانتقاصه الدين وصبره عليه،’
وغاب عنه أنَّ الشر لا يستطير إلا من البداية.
(25)
أي بُني,’
اعلم أن الكبر لبوس السفهاءِ،’
يعرفون به فيجتنبهم العقلاءُ،’
والتواضع لبوس العقلاءِ،’
يعرفون به، فيصلح الله بهم السفهاء،’
وما رأيت متكبراً إلا والشر أقرب وأحبُّ إليه من الخير، وما رأيت متواضعاً إلا والخير أقرب وأحبُّ إليه من الشر،’
والكبر لا يليق إلا بالأراذل الجهلاء،’
والتواضع لا يليق إلا بالنبلاء الشرفاء،’
وما عرفت متواضعاً إلا والناس مجمعون على حبِّه ولو كان فاسقاً، وما عرفت متكبراً إلا والناس مجمعون على بغضه ولو كان فيما يبدو للناس تقيَّاً صالحاً،،
فكن من الكبر على حذر، ولا تعزف نفسك عن تواضع،’
فتصيبك ندامةٌ باغتةٌ جاسية.
(26)
أي بُني,’
ما رأيت أمنع للعلم من العربية، ولا أصون له من الإخلاص،’
ولا أمتع به من العمل، ولا أبقى له من المدارسة، ولا أروح للنفس فيه من استحضار مسائله، ولا أشوق للتزوُّد به من رؤْية آثاره في الناس،’
والأرفع في الناس قدراً من أهله، ولا أجمع للخير من الإقبال والحرص عليه،’
¥