تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الثاني: لو كانت العقول البشرية المجردة قادرة على تمييز الحلال من الحرام، وإدراك المصالح والمفاسد الحقيقية لما كانت هناك حاجة لإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية!، والعقول البشرية تتفاوت تفاوتاً كبيراً في تقدير المصالح والمفاسد، فما يراه بعض الناس مصلحة يراه آخرون مفسدة، بل إن الإنسان ينقض اليوم ما أبرمه بالأمس، ويفعل الشيء يظنه حقاً ومصلحة ثم يتبين له بعد حين أنه باطل ومفسدة، ولهذا كان من أعظم نعم الله علينا أنه لم يكلنا إلى أنفسنا وعقولنا المحدودة القاصرة، وإنما شرع لنا الشرائع وسن لنا الأحكام ليصلح أحوالنا في الحياة وبعد الممات، وأكرمنا بالوحي المعصوم الذي يهدي للتي هي أقوم، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وأعلم الناس بهذا الوحي ومقاصده وقواعده هم علماء الشريعة، الذين يجب على المهندس والطبيب، والخاص والعام، أن يرجع إليهم في معرفة الحلال والحرام، خصوصاً في المسائل التي تختلف فيها الأنظار، وتتباين بشأنها العقول والأفهام، وكما لا يجوز لغير الأطباء أن يتصدوا للتطبيب ووصف الدواء، ولا يجوز لغير المهندسين المعماريين أن يتصدوا للتخطيط وتصميم البناء، فكذلك لا يجوز لغير علماء الشريعة أن يتصدوا للإفتاء في مسائل الحلال والحرام، ويدعوا إلى الإقدام أو الإحجام بلا خطام أو زمام!!

الثالث: إذا كان المهندس المعماري أعلم من علماء الشريعة بالتصميمات الهندسية وطرائقها وآلياتها، فهل يستطيع المهندس الجاهل بالأحكام الشرعية أن يجزم بحكم وضع التصميمات الهندسية التي تشتمل على الصور والتماثيل, وحكم ترصيع الجدران أو الأبواب بالذهب والفضة أو غيرهما من المعادن النفيسة، وحكم التصميمات التي تنكشف من خلالها العورات، وحكم وضع أجهزة التنصت والتجسس في الأسقف والجدران والأرضيات، وحكم وضع المراحيض باتجاه القبلة استقبالاً واستدباراً، وحكم رفع البناء أو فتح الطاقات التي يتأذى بها الجيران، أو قد تستخدم على التلصص عليهم وكشف عوراتهم، وأمثال هذه المسائل التي قد يتردد في حكمها العلماء الراسخون، فضلاً عن العامة والمتطفلين على الشريعة، وإن كانوا يحملون شهادات عليا في الهندسة أو غيرها من العلوم الدنيوية؟!!

إن هذه المسائل وأمثالها تحكمها نصوص شرعية كثيرة، وقواعد فقهية متنوعة لا يعلمها حق علمها إلا علماء الشريعة، وهم المرجع في تقدير الحلال والحرام فيها.

وإذا كان الطبيب أعلم بالطب والأدوية والجراحات الطبية المتنوعة من علماء الشريعة، فهل يستطيع الطبيب الجاهل بالأحكام الشرعية أن يعرف حكم الجراحة الطبية، وحكم العمليات التجميلية على اختلاف أنواعها، وحكم التداوي بالأدوية المشتملة على السموم أو الخمر أو الخنزير، وحكم إجهاض الأجنة، وحكم قطع النسل أو استئصال الرحم، وحكم أطفال الأنابيب بصورها المختلفة، وحكم نقل الدم والأعضاء وحكم بيعها وشرائها، وحكم إعادة الأعضاء المقطوعة في القصاص والحدود، وحكم بنوك الحليب وبنوك الحيوانات المنوية، وحكم ما يسمى بالقتل الرحيم، وحكم نزع أجهزة الإنعاش عن فاقد الوعي أو الميت دماغياً، وحكم الاستنساخ، وحكم تغيير الجنس والتلاعب بالجينات والهرمونات ... وهكذا.

إن هذه المسائل وأمثالها لا يمكن معرفة ضوابطها الشرعية، ومعرفة المباح منها والحرام إلا عن طريق علماء الشريعة، الذين هم أعلم بنصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة ومقاصدها من هؤلاء الأطباء، مهما بلغوا في الحذق والذكاء، ودورهم يقتصر على مجرد تكييف هذه المسائل للعلماء وبيان نتائجها وآثارها الجانبية، وكل ميسر لما خلق له.

وكثير من هذه المسائل محل خلاف بين كبار العلماء في أصل مشروعيتها أو في شروطها وضوابطها، فكيف يصح لطبيب غير متخصص أن يفتي فيها ويقدم عليها، بحجة أنه يرى المصلحة في ذلك، وأن الشريعة مبناها على المصالح؟!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير