(ذكر حجة الإسلام الغزالي في الباب الرابع من " إحيائه " (1) أن الذين يزعمون أن غرضهم من المناظرات المباحثة عن الحق – لأن الحق مطلوب، والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد و مؤثر – ما هو إلا تلبيس، قال: يطلعك على هذا التلبيس ما أذكره – وهو أن التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات ثمان:
الأول: أن لا يشتغل به – وهو من فروض الكفايات – من لم يفرغ من فروض الأعيان (2).
الثاني: أن لا يرى فرض كفاية أهم من المناظرة، فإن رأى ما هو أهم منها [و فعل غيره] عصى بفعله.
الثالث: أن يكون المناظر مجتهدا، يفتي برأسه [لا بمذهب الشافعي و أبو حنيفة وغيرهما، حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي، و أفتى بما ظهر له]، كما كان يفعله الصحابة –رضي الله عنهم – فأما من ليس له رتبة الاجتهاد، وإنما يفتي [فيما يُسأل عنه] ناقلا عن مذهب صاحبه، بحيث لا يتركه و لو ظهر له ضعفه!، فأي فائدة له في المناظرة، [و مذهبه معلوم و ليس له الفتوى بغيره].
الرابع: ألا يناظر إلا في مسألة واقعة، أو قريبة الوقوع غالبا.
الخامس: أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه، و أهم من المحافل، خوفا من تحريك دواعي الرياء.
السادس: أن يكون في طلب الحق كناشد الضالة! (3)، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينا لا خصما، يشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته، فينبهه صاحبه على ضالته في طريق آخر، فإنه كان يشكره و لا يذمه، و كان يكرمه و يفرح به، فهكذا كانت مشاورات الصحابة – رضي الله عنهم – حتى إن امرأة ردت على عمر – رضي الله عنه – ونبهته على الحق، وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال: " أصابت امرأة و أخطأ رجل" (4).
ورد رجل على عليّ – رضي الله عنه – فقال:
" أصبتَ وأخطأتُ، وفوق كل ذي علم عليم ".
السابع: أن لا يمنع معينه في النظر من الانتقال من دليل إلى دليل، ومن إشكال إلى إشكال، فهكذا كانت مناظرات السلف.
الثامن: أن يناظِر من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم.
هذا ملخص ما ذكره الغزّالي – عليه الرحمة- وقد أطال فأطاب، وجوّد الأمثلة في ذلك فليراجع.
و من كلامه عليه الرحمة:
فانظر إلى مناظري زمانك اليوم! (5) كيف يسود وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه! وكيف يخجل به، وكيف يجتهد في مجاهدته بأقصى قدرته! وكيف يذم من أفحمه طول عمره! ثم لا يستحي من تشبيه نفسه بالصحابة – رضي الله عنهم – في تعاونهم على النظر في الحق.
و ذكر أيضا –عليه الرحمة - من آفات المناظرة:
الاستكبار عن الحق، و كراهته، و الحرص على المماراة فيه، حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية، فلا يسمع كلاما إلا وينبعثُ من طبعه داعية الاعتراض عليه، حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن و ألفاظ الشرع، فيضرب البعض منها بالبعض، و المراء في مقابلة الباطل محذور، و قد سوّى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا، و بين من كذب بالحق، فقال تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
و قال أيضا – عليه الرحمة – في " فيصل التفرقة ":
فإن تخبط في جواب هذا – يعني ما قدمه من كلامه – أو عجز عن كشف الغطاء فيه، فاعلم أنه ليس من أهل النظر، وإنما هو مقلد، و شرط المقلد أن يَسْكُتَ و يُسْكت عنه، لأنه قاصر عن سلوك الحِجاج، و لو كان أهلا له كان مستتبعا لا تابعا، وإماما لا مأموما، فإن خاض المقلد في المحاجّة فذلك منه فضول، و المشتغل به صار كضارب في حديد بارد! و طالب لصلاح الفاسد .. إلخ.
و قال الإمام تقي الدين – عليه الرحمة- (6):
إن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرْتَ له الحق الذي عندك ابتداءً أخذ يعارضك فيه، لما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدّعيا أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه، و إلا فما دام معتقدا نقيضَ الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كُتب فيه كلام باطل، امحه أولا، ثم اكتب فيه الحق. انتهى.) اهـ (7).
¥