كان الإمام مالك بمنزلة علمية عالية فريدة، لم ينافسه فيها أحد من طبقته، بل ولا من شيوخه، قال الذهبي: ولم يكن بالمدينة عالمٌ من بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم، والفقه، والجلالة، والحفظ، فكان مالك هو المقدم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق. وقال الحاكم في بيان منزلته: ضربت إليه أكباد الإبل من الآفاق، واعترفوا له، وروت الأئمة عته ممن كان أقدم منه سناً، كالليث عالم أهل مصر والمغرب، وكالأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم، والثوري وهو المقدم في الكوفة، وشعبة عالم أهل البصرة.
وقد تَأَهَّل للفُتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة - وهو شَابٌّ طَرِيٌّ -، بعد أن شَهِد له سبعون عالماً أنه أَهلٌ لذلك. فقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد وإلى أن مات (11).
قال ابن وهب: "حَجَجتُ سنة ثمان وأربعين ومئة وصائحٌ يَصِيحُ: (لا يُفتي الناس إلاَّ مالك بن أنس وابن الماجَشون) " (12).
تلامذته:
بلغ من إمامته ومنزلته أن حَدَّث عنه جماعة من شيوخه وأقرانه كما تقدم، فضلاً عن غيرهم؛ وعدد الرواة عنه يقارب ألفاً وأربع مئة، أفرد الذهبي أسماءهم في جزء كبير. ومن أبرز الآخذين عنه: الزهري وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري والليث والشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني.
وآخرُ أصحابه موتًا راوي "الموطأ"، أبو حذافة أحمد بن إسماعيل السَّهمي، عاش بعده ثمانين سنة (13).
صفاته وسجاه:
كان من أحسن الناس وجهاً، وأجلاهم عينًا، وأنقاهم بَياضًا، وأتَمَّهم طُولاً في جودة بدن. أشقر، أصلع، عظيم الهَامَة، أبيض الرأس، عظيم اللحية تامَّها تبلغ صدره ذات سعة وطول، وكان ربما خَضَب بحِنَّاء، وكان يأخذ آطار شاربه ولا يحلقه، ويترك له سِبالَين طويلين.
نَقِي الثَّوب رقيقه، يُكثِر اختلاف اللَّبوس؛ فيلبس البياض، والثِّياب المَرْوِيَّة والعَدَنِيَّة الحِسان، والسِّيجان، والطَّيلَسان. إذا اعتَمَّ جعل منها تحت ذقنه ويَسدِل طَرفَها بين كتفيه، يَتَطَيَّب بالمِسك وغيره. أشبه شيء بالملوك في هيئته.
وقال ابن سعد: حدثني محمد بن عمر قال: كان مالك يأتي المسجد، فيشهد الصلوات والجمعة، والجنائز، ويعود المرضى، ويجلس في المسجد، فيجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس، فكان يصلي وينصرف، وترك شهود الجنائز، ثم ترك ذلك كله، والجمعة، واحتمل الناس ذلك كله، وكانوا أرغب ما كانوا فيه، وربما كلِّمَ في ذلك، فيقول: ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره.
وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان رجلاً مهيباً نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء، واللغط، ولا رفع صوت، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث، فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث، وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه، وكان له كاتب قد نسخ كتبه، يقال له: حبيب، يقرأ للجماعة، ولا ينظر أحد في كتابه ولا يستفهم، هيبة لمالك، وإجلالاً له، وكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك، وكان ذلك قليلاً.
وكان خاتمه الذي مات وهو في يده فَصُّه أسود حَجَري، ونقشه: (حسبي الله ونعم الوكيل)، وكان يلبسه في يساره، وربما لبسه في يمينه (14).
كان هذا الإمام من الكبراء السُّعداء والسَّادة العلماء، ذا حِشمةٍ وتَجَمُّلٍ وعَبيدٍ ودار فاخرةٍ ونعمة ظاهرةٍ، ورِفعةٍ في الدنيا والآخرة. كان يقبل الهدية، ويأكل طَيِّبًا، ويعمل صالحًا (15).
وكان رجُلاً مَهيبًا - تهابه السَّلاطين - نَبيلاً، عزيزَ النَّفس، صُلبًا في دين الله، شُغلُه في بيته تلاوةُ القرآن الكريم (16).
لا يخرج على طَلَبَتِه إلاَّ وقد لَبِس مِن أحسَن ثيابه، واكتحل وتطيَّب وتطَهَّر. فإذا جلس على السَّرير وتَصَدَّر الحَلْقة، فكأنَّ على رؤوس الحاضرين الطير. مجلسه مجلس حِلم ووَقار، ليس فيه شيء من المِراء واللَّغَط ولا رفع صوت (17).
يقتصد في الجواب، ويُجِلُّ حديث رسول الله {، ويُقِلُّ الرِّواية عنه.
يَذُمُّ كثرة الفتيا، ويُكثر من قول (لا أدري)، ويَحُضُّ عليها. قال تلميذه ابن وهب: "لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك لا أدري لفعلت". ولا يُفتي حتى يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) (18).
ولبعض أهل المدينة فيه (19):
يَدَعُ الجواب فلا يُراجعُ هيبةً
والسَّائلون نواكسُ الأذقان
أدبُ الوَقَار وعزُّ سُلطان التُّقى
فهو المطاعُ وليس ذا سُلطان
¥