تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ففي سنة ستٍّ - وقيل: سنة سبع - وأربعين ومائة امتُحِن - رحمه الله - بسبب فُتياه بعدم إجازة طلاق المُكرَه من قِبل بعض الوُلاة، فجُرِّد وضُرب بالسِّياط ثلاثين ضربة أو أكثر (73). قال الداودي: "سمعته يقول حين ضرب: (اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون) " (74). وجُبِذَت يده حتى انخلعت من كتفه، حتى كان لا يستطيع أن يرفع يديه، ولا أن يُسَوِّيَ رداءه، وارتُكِب منه أمر عظيم (75). ثم حُلق، وحُمِل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك! فقال: ألا من عرفني، فقد عرفني. ومن لم يعرفني، فأنا مالك بن أنس، أقول: طلاق المكره ليس بشيء! فلمَّا بلغ ذلك الوالي، قال: أدركوه! أنزلوه! (76) وإنما أمر بذلك؛ لأنَّ فيه تشهيرًا بالفتيا، وتعريفًا بصاحبها، فتكون أوقَعَ في القلوب لجلالة القائل بها. وهكذا ينقلب السِّحر على السَّاحر!

وكان يقول: "ضُرِبت فيما ضُرِب فيه محمَّد بن المنكدر وربيعة وابن المسيّب، ويذكر قول عمر بن عبد العزيز: "ما أغبط أحدًا لم يصبه في هذا الأمر أذى! " (77).

فلم يَزَل مالك بَعدُ في رِفعة من الناس وعُلُو وإعظام حتى كأنما كانت تلك الأسواط حَليًا حلي به - رحمه الله - إلى أن لَقِي ربَّه.

فانقلبت المحنة منحة، وازداد الإمام بذلك عند الله تعالى وعند الناس كرامةً ورفعةً والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".

وفاته:

- وفي ربيع الأول من السَّنة التاسعة والسبعين بعد المئة، وافته المنِيَّة بالمدينة النبويَّة - التي أبى أن ينزل بغيرها أو يتخذ له وطنًا سواها، فعل ذلك امتثالاً لوصيَّة صاحبها عليه أفضل الصَّلاة وأزكى التحية؛ قال نصر ابن علي الجهضمي، حدثني حسين بن عروة قال: "قدم المهدي فبعث إلى مالك بألفي دينار أو قال بثلاثة آلاف دينار، ثم أتاه الربيع بعد ذلك فقال: إن أمير المؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة السَّلام! فقال: قال النبي {: "المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، والمال عندي على حاله! " (78).

مات عن عُمْر يُناهز ستًّا وثمانين عامًا، بعد أن تمرَّض أيَّامًا. ولما حضر أجله تَشَهَّد، ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد4 {الروم: 4} (79).

تولى غسله ابنه يحيى وكاتبه حبيب ورجلان آخران، وكُفِّن في ثيابٍ بيضٍ - بلغ ثمنها خمسة دنانير -، وصُلِّيَ عليه في موضع الجنائز - بناءً على وَصِيَّتِه -، صَلَّى عليه الأمير عبدالله بن محمد الهاشمي. ثم مشى أمام جنازته، وحمل نعشه إلى البقيع وبها دُفِن، بالقُرب من قبر نافع - إما القارئ، وإما مولى ابن عمر -. ونزل في قبره جماعة (80).

- وقد خلَّف متاعًا كثيرًا، ومالاً وفيرًا. ورُئِيت له عدَّة منامات، ورُثي بأبياتٍ سائراتٍ.

يقول فيه أبو محمَّد السرَّاج:

سَقَى جَدَثًا ضَمَّ البقيعُ لمالك

مِن المُزنِ مِرعَادُ السَّحائب مِبراقُ

إمامٌ موطأه الذي طَبقَت به

أقاليمُ في الدُّنيا فِساحٌ وآفاقُ

أقامَ به شرع النبي محمَّد

له حَئرٌ من أن يُضام وإشفاقُ

له سَنَدٌ عالٍ صحيحٌ وهيبةٌ

فلِلْكلِّ منه حين يَرويه إطراقُ

وأصحابُ صِدقٍ كلُّهُم عَلَمٌ فَسَل

بهم إنَّهم إن أنت ساءت حُذَّاقُ

ولو لو يكُن إلاَّ ابن إدريس وحده

كفاة ألا إنَّ السَّعادة أرزاقُ (81)

ولبعضهم في ولادته وعمره ووفاته:

فخر الأئمَّة مالكُ

نِعمَ الإمام السَّالكُ

مولدهُ نَجمُ هُدًى

وَفَاتُهُ فاز مالكُ (82)

- ولشُهرة هذا الإمام الهمام وعُلُوِّ مقامه، وكثرة أتباعه، اعتنى أهل العلم على مدى القرون السَّالفة بحياته، فأفردوها بالتصنيف؛ من ذلك:

- مناقب مالك؛ لأبي بكر الجعابي (83).

- مناقب مالك؛ للدينوري (84).

- مناقب مالك؛ لأبي بكر النيسابوري (85).

- مناقب مالك؛ لأبي بكر اللخمي، المعروف بابن اللباد (86).

- مناقب مالك؛ لثابت بن حزم السرقسطي (87).

- وأفردها الإمام الذهبي في جزء، وطولها في التاريخ الكبير (88).

- تزيين المملك بمناقب مالك؛ للسيوطي (89).

- مؤلَّف للقاضي أبي عبدالله التستري المالكي، في ثلاث مجلدات (90).

وألَّف في مناقبه أيضًا أبو الحسن ابن فهر المصري، وجعفر بن محمَّد الفريابي القاضي، والحافظ أبو بشر الدولابي، والزبير بن بكار، وأبو علاثة محمَّد بن أبي غسان، وغيرهم (91).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير