الموطأ، ولتأليفه قصة مشهورة، وذلك أن أبا جعفر المنصور كان من المعجبين بعلم مالك، فقال له: يامالك اصنع للناس كتاباً احملهم عليه، فما أحد اليوم أعلم منك. فاستجاب له الإمام مالك وصنف الموطأ، وتوخى فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز (55).
وللموطأ روايات كثيرة، أشهرها: رواية يحيى بن يحيى الليثي، ورواية أبي مصعب الزهيري، ورواية عبدالله بن مسلمة القعنبي، ورواية ابن وهب، وغيرها.
ولشهرته وقيمته فقد عني به العلماء عناية بالغةً، وصُنِّفت له شروحات كثيرة؛ من أشهرها:
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبدالبر. قال ابن حزم: هو كتابٌ في الفقه والحديث، ولا أعلم نظيره، واختصره وسمَّاه: الاستذكار (56).
- كشف المغطا في شرح الموطأ، للإمام السُّيوطي. وله تنوير الحوالك على موطأ مالك (57).
- القبس شرح موطأ مالك بن أنس، لأبي بكر بن العربي (58).
- فتح المغطى شرح الموطى، لملا علي القاري (59).
وله مؤلفات أخرى، منها ما هو مقطوع بنسبته إليه، ومنها ما هو مشكوكٌ فيه؛ فمن ذلك:
- رسالة في القدر، كتبها إلى ابن وهب، قال الذهبي: وإسنادها صحيحٌ (60).
- مؤلَّفٌ في النجوم ومنازل القمر، رواه سحنون: عن ابن نافع الصائغ عنه، مشهورٌ (61).
- رسالة في الأقضية. مجلَّد. رواية محمَّد بن يوسف بن مطروح: عن عبدالله بن عبد الجليل (62).
- رسالة في الدعاء (63).
- رسالة المسائل (64).
- رسالة إلى أبي غسان محمَّد بن مطرف (65).
- رسالة آداب إلى الرشيد، وإسنادها منقطعٌ، قد أنكرها إسماعيل القاضي وغيره، وفيها أحاديث لا تعرف. وقد جزم الذَّهبي بوضعها، وقال القاضي الأبهري: فيها أحاديث لو سمع مالك من يحدِّث بها لأدَّبه (66).
- جزء في التفسير، يرويه خالد ابن عبدالرحمن المخزومي، يرويه القاضي عياض: عن أبي جعفر أحمد ابن سعيد: عن أبي عبدالله محمَّد بن الحسن المقرئ: عن محمَّد بن علي المصيصي: عن أبيه بإسناده (67).
- كتاب السِّر. قال الحافظ ابن حجر: "وقفت عليه في كرَّاسةٍ لطيفةٍ من رواية الحارث بن مسكين: عن عبدالرحمن بن القاسم: عن مالك، وهو يشتمل على نوادر من المسائل، وفيها كثير مما يتعلَّق بالخلفاء، ولأجل هذا سُمِّي كتاب السِّر. وقد رواه أحمد ابن أسامة التجيبي وهذَّبه ورتبه على الأبواب، وأخرج له أشباهًا ونظائر في كُلِّ باب" (68).
وحُذَّاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون هذا الكتاب. قال القرطبي: "مالك أجلُّ من أن يكون له كتاب سِرٍّ"، وقال ابن كثير: "أكثر النَّاس يُنكر أن يَصحَّ ذلك عن الإمام مالك". وقال الخليلي: "لا يصحُّ عن عبدالرحمن - يعني: ابن القاسم - أنه روى ذلك، لأنَّ فيه أشياء يُنزَّه مالك عنها" (69).
- رسالةٌ إلى الليث في إجماع أهل المدينة، وهي معروفة (70).
فأمَّا ما نَقل عنه كبار أصحابه من المسائل والفتاوى والفوائد فشيء كثير، ومن كنوز ذلك "المدونة" و"الواضحة" وأشياء.
وهي من أَجَلِّ الكتب في مذهب مالك، ومن كنوز ما نقل كبار أصحاب مالك عنه، وهي عند أصحاب مالك ككتاب "الأم" عند أصحاب تلميذه الشَّافعي؛ لذلك اعتنى بها العلماء شرحًا وتهذيبًا واختصارًا وتعليقًا.
وأصلُ المدونة أسئلة سألها أسدٌ بن الفرات لابن القاسم - وهي المعروفة ب: "الأسدية" -؛ فلمَّا ارتحل سَُحنون - بفتح السين وبضمها - بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرًا وأسقط.
ثم رَتَّبها سُحنون وبَوَّبها واحتَجَّ لكثير من مسائلها بالآثار من مَروِيَّاته، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها بل رأي محض. وحكوا أن سَحنون في أواخر الأمر عَلَّم عليها وهَمَّ بإسقاطها، وتهذيب المدونة؛ فأدركته المَنِيَّة - رحمه الله-. فكُبَراء المَالِكية يَعرفون تلك المسائل ويُقَرِّرون منها ما قَدِروا عليه ويُوَهِّنون ما ضَعُف دليله (71).
- وكان هذا الإمام واسع الرواية، ملأ حديثه الصحاح والمسانيد والمعاجم، وقد اعتنى الأئمَّة على وجه الخصوص بجمع ما رواه مالك خارج موطئه، فتنوَّعت تصانيفُهم في ذلك؛ فمنهم من اعتنى بغريب حديثه، ومنهم من جمع ما تيسر له من مسانيده، ومنهم من اعتنى بالعوالي من أخباره، وآخرون جمعوا ما خُولف فيه (72).
محنته:
وقد كان هذا الإمام الهُمام صُلبًا في دين الله تعالى؛ يَصدَعُ بكلمة الحقِّ، ولا يخاف في الله لومة لائم.
¥