وذكر عبد الرزاق عن محمد بن راشد، قال: أخبرني عبدة بن أبي لبابة أن معاذ بن جبل كان يقول على منبره: يا أهل فردا، ويا أهل دامرة - قريتين من قرى دمشق، إحداهما على أربعة فراسخ، والأخرى على خمسة-: إن الجمعة لزمتكم، وإنه لا جمعة إلا معنا ([15]).
وقد روي عن معاوية أنه كان يأمر من بينه وبين دمشق أربعة وعشرون ميلا بشهود الجمعة، وذكر معمر عن هشام بن عروة، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: كان أبي من المدينة على ستة أميال أو ثمانية، فكان ربما شهد الجمعة، وربما لم يشهدها.
وقال الزهري: ينزل إليها من ستة أميال ([16])، وروي عن ربيعة أنه قال: تجب الجمعة على من إذا سمع النداء وخرج من بيته أدرك الصلاة.
وقال مالك والليث: تجب الجمعة على كل من كان على ثلاثة أميال، وقال الشافعي: تجب على كل من كان بالمصر، وكذلك كل من سمع النداء ممن يسكن خارج المصر. وهو قول داود.
وقال أبو حنيفة: الجمعة على كل من كان بالمصر، وليس على من كان خارج المصر جمعة، سمع النداء أو لم يسمع.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء، كان بالمصر أو خارجا عنه، يريدان الموضع الذي يسمع منه ومن مثله النداء، روي مثل ذلك عن عبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب.
وقد كان الشافعي يقول: لا يتبين عندي أن يحرج بترك الجمعة إلا من يسمع النداء، قال: ويشبه أن يحرج أهل المصر وإن عظم بترك الجمعة.
قال أبو عمر: يشبه أن يكون مذهب مالك وأصحابه والليث في مراعاة الثلاثة أميال لأن الصوت الندي في الليل عند هدوء الأصوات يمكن أن يسمع من ثلاثة أميال، والله أعلم.
فلا يكون مذهب مالك في هذا التأويل مخالفا لمن قال: لا تجب الجمعة إلا على من سمع النداء، وهو قول أكثر فقهاء الأمصار، وقد ذكر ابن عبدوس في المجموعة عن علي بن زياد، عن مالك قال: عزيمة الجمعة على من كان بموضع يسمع منه النداء، وذلك من ثلاثة أميال، ومن كان أبعد فهو في سعة، إلا أن يرغب في شهودها فهو أحسن، فهذه رواية مفسرة. وعلى هذا قال مالك فيما روى عنه ابن القاسم وغيره، أن ليس العمل على ما صنع عثمان في إذنه لأهل العوالي؛ لأن الجمعة كانت عنده واجبة على أهل العوالي، لأن العوالي من المدينة على ثلاثة أميال ونحوها، وذهب غير مالك إلى أن إذن عثمان لأهل العوالي إنما كان أن الجمعة لم تكن واجبة على أهل العوالي عنده؛ لأن الجمعة إنما تجب على أهل المصر عنده، هذا قول الكوفيين سفيان وأبي حنيفة.
ومن حجة مالك في مراعاة الثلاثة أميال. . . ثم ساق بسنده إلى ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عل أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم، فينزل بها على رأس ميلين أو ثلاثة من المدينة، فتأتي الجمعة فلا يجمع فيطبع على قلبه ([17]).
ومن حجة من شرط سماع النداء. . . ثم ساق بسنده إلى عبد الله بن هارون، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: الجمعة على من سمع النداء. وذكر عبد الرزاق عن داود بن قيس، قال: سئل عمرو بن شعيب: من أين تؤتى الجمعة؛ فقال: من مدى الصوت ([18]).
قال أبو عمر: ما يحضرني على من ذهب مذهب عطاء وابن الزبير على ما تقدم ذكرنا له إجماع المسلمين قديما وحديثا أن من لا تجب عليه الجمعة، ولا النزول إليها لبعد موضعه عن موضع إقامتها. . مجمع أن الظهر واجبة لازمة على من كان هذه حاله، وعطاء وابن الزبير موافقان للجماعة في غير يوم عيد، فكذلك يوم العيد في القياس والنظر الصحيح، هذا لو كان قولهما اختلافا يوجب النظر، فكيف وهو قول شاذ، وتأويله بعيد، والله المستعان وبه التوفيق ([19]). انتهى كلام ابن عبد البر.
¥