تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عن المَلَلِ بالإحماض؛ فاصبروا واعجبوا واضحكوا معي وابكوا؛ فأنتم على خير إن شاء الله .. ومن هذا الاستكشاف الذي استجدَّ لي أنه مضى عمري لم أصدر عملاً متخصِّصاً مستوعباً لفن بعينه؛ لأن مزاجي عنيد لا يخضع للأَرْشفة (1)؛ فلما أردت أن أرثي نفسي وجدتُ أنني غير محروم من الخير، وأن المنهج الذي أريده منقاد لي طوعاً بإذن الله لو أردتُ سلوكه؛ لأنني مزيج مركَّب من أخلاط المعارف النظرية، وما ينتج عنها من علم يُغذِّي كل حقل معرفي، وهو ما يظهر من الفروق والعلاقات بين المعارف .. ويصحب ذلك حسٌّ جمالي مفرط الشفافِيَّة، وتحديثٌ بنعمة الله عن موهبة فكرية لا تخلط الأوراق .. ثم حرصت أن لا أَحْرِمَ نفسي من التخصُّص في جناحين للمعرفة لا ثالث لهما: هما أسرار اللغة، والتأصيل الفكري .. ويلتقي مع كل ذلك ذكريات غير محمودة خَلَّفتْ ندماً وامْتعاضاً، ولذَّةُ إنابةٍ انبثق عنها شفافية أيضاً مفرطة في التورُّع؛ ولاختلاط الماضي بالحاضر يحار المتلقي: هل أنا واعظ، أو مُطْرِب، أو نديم .. وليس في الجمع بين ذلك تناقض؛ لاختلاف الزمان .. كما أنه لا يوجد تضاد؛ لأنه جائز أن لا أكون شيئاً من ذلك، وجائز أن أكون شيئاً غيرَ ذلك .. والنديم صيغة مبالغة لفعل المنادمة؛ فذلك هو الوجود بالفعل .. والنَّدْمان عن بلوغ الغاية في الذات، وذلك هو الوجود بالقوة الذي يظهر منه الوجود بالفعل مثل شبعان وملآن، فالملآن عنده قوة على أن يملأ غيره مِمَّن هو دونه على أقل تقدير، وأما بمعنى بلوغ الغاية فالفَعْلان لا ينقص مهما ملأ غيره .. وأما فيما يتعلق بربنا سبحانه فالرحيم لغاية الكمال في فعله جلّ وعلا الرحمةَ لخلقه، والرحمان لبلوغ غاية الكمال للاتصاف بهذه الصفة التي يصدر عنها رحمته لخلقه من غير أن ينقص شيئ من كمال الاتصاف تعالى الله .. وأما بعد فلقد أثْنَى عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم على شاب ليست له صبوة، وبشَّره بأنه من الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ فعصيتُ سلوكاً وتقصيراً وغلبةَ هوىً لا عقيدةً؛ فامتلأتْ حياتي بالصَّبوات وإن كان لي فيئات كأفاويق (2) الناقة .. وقال ربنا سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأحقاف -15)؛ فكان أهل المدينة المنورة - بلَّغني الله قضاء حياتي بها - يشدُّون المئزر للعبادة إذا بلغوا هذا العمر؛ فعصيتُ سلوكاً لا عقيدة، وأوضعتُ وأرْقلتُ (3) في الغفلة والتقصير والتسويف وإن كانت أفاويقي أكثر .. وأخبر الرسول أن الله أعْذَر لابن ستين عاماً؛ فعصيتُ سلوكاً لا عقيدة، ولكن الألم يعصر قلبي؛ فلما بلغتُ سبعين عاماً إلى هذا العام الرابع بعد السبعين استيقظتُ، وأخذتُ نفسي بالرياضة تدريجياً ولَمَّا أبلغ ما أريده؛ فلماذا هذا الإيضاع والغفلة وأنا ابن الفطرة ومن مدينة شقراء بين رجال جباههم مُطَيَّبات من ثفنات السجود؟!.

قال أبوعبدالرحمن: الجواب من ثلاثة أمور:

أولها: أنني منذ نضجتْ مداركي سلَّمتُ قيادي لابن حزم بالتتلمذ الأعمى، وهو إمام عالم مجاهد متين الدين أدَّاه اجتهاده الخاطئ إلى ورطات غطستُ فيها غطسة الغريق، ولبيئته رحمه الله أثَرٌ في ذلك، ولكن أي بيئة لي مثل بيئته وأنا من بيئة الحرمل والحنظل .. لا عطورَ، ولا نوافيرَ، ولا أوتارَ زرياب، ولا حسناوات النورمان؛ فتكلَّفتُ التَّصابي تقليداً له حتى كان التطبُّع طبعاً؛ فتوحَّلْتُ في الحب والطرب، وإن كان مرَّ بي أزمة عاطفية في زواج فاشل فهي لا تُبيح لي تلك الورطات لو ظللتُ على فطرة النشأة في مدينتي شقراء مدينة الفطرة، ومدينة مسجد الحسيني المبارك .. قرأتُ طوق الحمامة، وقرأت إباحته للغناء الملهي في رسالة خاصة، وفي مسألة من كتاب البيوع بالمحلى؛ فانْماع قلبي ووجداني، وتقاطر طرسي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير