أما الذي يتفقَّدُ القرآنَ لمجرد إمضاء وقته، ويتصلُ بالذِّكر في ذلك، ما يُفلح، فقط ينتظر الإقامة وينتظر متى يأتي الإمام، لماذا؟ لأنه ما عوَّد نفسه، ولا تعرَّف على الله في الرخاء ليعرفه - سبحانه - في مثل هذه الشدائد [48].
لكن لو تأخَّر الموظف الذي ينتظره عشر دقائق أو ربع ساعة، أو تعوَّد، وكان لا يحفظ القرآن وفي جيبه جزء من القرآن فقرأه، يكفيه، مائة ألف حسنة أفضل بكثير من العمل الذي جاء مِن أجْله.
ولأننا لم نعوِّدْ أنفسَنا على هذا؛ نتضايق كثيرًا، الإنسان في طريقه وفي مصلحته ذَهابًا إليها وإيابًا منها، يضيِّع أوقاتًا كثيرة، مثلاً الناس في السيارات الآن - وكثير من الناس لا يُحْسن استغلال مثل هذه الأوقات - اقرَأِ القرآنَ، اتلُ مِن الأذكار ما جاء الشرعُ بالحثِّ عليه، اسمعْ أشرطةً عِلمية تستفِدْ.
المقصود: أن الإنسانَ يحفظ الوقت؛ لأنَّ العمرَ هو عبارةٌ عن هذه الأنفاس وهذه الدقائق، وقبلها الثواني، وبعدها الساعات [49]، هذا هو عمرُ الإنسانِ؛ بل هذا هو حقيقة الإنسان، فإذا ضيَّع الإنسانُ نفسَه، فعلامَ يحاسَب؟
إذا ضيع الإنسان نفسه، يعني انتهت بالكلية، ما فعل شيئًا، وكم من شخص يُمَدُّ له في العمر إلى مائة سنة، فإذا طَلب من أهله وذويه أن يخبروه ماذا أنجز خلال هذه السنين المائة، والله ما يجد شيئًا نافعًا، وبعض الناس يبارَك له في عمره.
عمر بن عبدالعزيز: [50] مات وما أكمل الأربعين، ولكن انظر ما زال ذِكره إلى الآن باقيًا؛ الذِّكر الحسَن.
وسعيد بن جبير [51]: ما أكمل الخمسين.
النووي [52]: ستة وأربعين، وملأ الدنيا عِلمًا، في مساجدِ الدنيا كلِّها يُقال: قال النوويُّ - رحمه الله تعالى.
فعلينا أن نحرِص على هذا.
ثم قد يقول قائل: ما السرُّ وراء هذه البَركة؟ إننا رأينا أناسًا طالتْ أعمارُهم؛ لكن ما كُتب لهم مثلُ هذا الذِّكر الحسن، بحيث يقال على كل إنسان: رحمه الله؟ جاء شخص إلى هشام بن عبدالملك وقال له: إن أباك منحني قطعةَ أرض، ثم جاء عمرُ بن عبدالعزيز - رحمه الله - فأخذها مني، قال: سبحان الله، الذي أعطاك الأرض ما قلتَ: رحمه الله، والذي أخذها منك تقول: رحمه الله؟! قال: وماذا أفعل؟ كلُّ الناس تقول هذا، ما يُذكر اسمُه إلا وترحَّم الناس عليه!
فعَلى الإنسان أن يحرص على تحقيق مثل هذه الأمور، وكم من شخص تجري أعماله بعد وفاته مئاتِ السنين، لماذا؟ لأنه دلَّ الناس على هُدًى، علَّم الناس الخير، ألَّف مصنَّفاتٍ يستفيد منها الناس، وأجورهم ماضية، ((أو علمٍ يُنتفع به)) [53]، وبعض الناس على العكس؛ مئاتِ السنينَ تجري عليهم الأوزار؛ لأنهم عمِلوا بدعًا وصنفوا كتبَ بِدَعٍ، فصار الناسُ يتأثَّرون بها، فعليهم أوزارهم.
و ((مَن سنَّ في الإسلام سُنة حسنة، فله أجرُها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة، فعليه وِزرُها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) [54].
فعلينا أن نهتم بأنفسنا ونحتاط لها، والموضوع المذكور في الإعلان موضوعٌ متشعِّب ولا ينتهي، ولا ندري بما نبدأ ولا بما ننتهي، لكن لعل الأسئلة تبيِّن شيئًا من المراد.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] قال علي بن أبي طالب: علموا أنفسكم وأهليكم الخير؛ ("تفسير الصنعاني" ج3 ص303، وقال الشيخ الألباني: صحيح موقوفًا، وقال مجاهد: "اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله"، وقال قتادة: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قدعتَهم عنها وزجرتهم عنها"؛ ("تفسير ابن كثير" ج4 ص392).
[2] قال الشيخ السعدي: "هذه الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرُّسُل يدْعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك متوقف على معرفة الله تعالى، فإنَّ تمام العبادة متوقف على المعرفة بالله؛ بل كلما ازداد العبد معرفة بربِّه، كانتْ عبادته أكمل، فهذا الذي خَلَق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"؛ ("تفسير السعدي" ج1 ص813).
¥