تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم نسأل عبد الحي. لماذا لم يفعل في المغرب ما فعله في الجزائرفَيَجْمَعَ الزَّوايا على الدَّعوة إلى التعليم؟، إنه لم يفعل لأنه لا يَرى زاويةً قائمة إلا زاويته، وكل ما عداها فمنفرجة أو حادَّة كما يقول علماء الهندسة؛ونسأل رجال الزّوايا. لماذا لم يجتمعوا لمؤتمرهم قبل مجيئ عبد الحي؟ و هل هم في حاجة إلى التّذكير بلزوم العلم والتعليم حتى يأتيهم عبد الحي بشيئ جديد في الموضوع؟.

يا قوم إن الأمر لمدبَّر؛ إن الأمر لَمدبر عِلمه مَن علمه منكم وجهِله من جهله؛ و ما نحن بمتزيدين ولا متخرصين.

و لو أن عبد الحي كان غير من كان، ونزل باسم العلم ضيفا على الأمة الجزائرية غيرَ متحيز إلى فئة، وغير مسيّر بيد، وغير متأبط لشر-لَلَقِيَ منها كل إكبار وتبجيل ولو أضافته على الأسوديْن التمر والماء؛ وإن ذلك لأعظم إعلاءً لقدره، وإغلاءً لقيمته.

ولقد كان من مقتضى كون الرجل مُحدِّثاً أن يكونَ سَلَفِيَّ العقيدة وقَّافا عند حدود الكتاب والسنَّة، يرى ما سواهما من وسواس الشيطان؛ وأن يكون مستقلا في الاستدلال لِما يؤخذ وما يترك من مسائل الدين؛ و قد تعالتْ هِمَمُ المحدِّثين عن تقليد الأئمة المجتهدين، فكيف بالمبتدعة الدجَّالين؛ وعُرِفوا بالوقوف عند الآثار والعمل بها، لا يَعْدونها إلى قول غير المعصوم إلا في الاجتهادات المحضة التي لا نصّ فيها؛ ولكن المعروف عن هذا المحدّث أنه قضى عمره في نصر الطرقية وضلالات الطرقيين و مُحْدَثَاتُهُم بالقول والفعل والسّكوت؛ وأنه خصم لدود للسّلَفيين، و حربٌ على السلفية؛ وهل يرجى ممن نشأ في أحضان الطرقية، وفتح عينيه على ما فيها من مال وجاه وشهوات ميسّرة ومخايل من الملك - أن يكون سلَفيًّا ولو سلسل الدنيا كلها بمسلسلاته؟.

إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة؛ فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السُّنة عملا لا قولا؛ والدّراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية؛ ثم يروض نفسه بعد ذلك على الهَدْي المعتصر من تلك السيرة وممن جرى على صراطها من السَّلف؛ وعبدُ الحي مُحَدِّثٌ بمعنى آخر، فهو (رواية) بكل ما لهذه الكلمة من معنى. تتصل أسانيده بالجن والحن و رَتَن الهندي، وبكل من هب ودب، وفيه من صفات المحدثين أنه جاب الآفاق. ولقي الرجال، واستوعب ما عندهم من الاجازات بالروايات، ثمّ غلبت عليه نزعت التجديد فأتى من صفات المحدثين (بالتخفيف) بكل عجيبة، فهو مُحَدِّثٌ مُحْدِثٌ في آن واحد؛ وهمُّه وهمُّ أمثاله من مجانين الرواية حفظ الأسانيد، وتحصيل الإجازات، و مُكاتبة علماء الهند والسند للاستجازة، وأن يرحلَ أحدهم فَيَلْقَى رجلا من أهل الرواية في مثل فَواق الحالب، فيقول له: أجَزْتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر (الكليشي)؛ فإذا عجز عن الرحلة كتبَ مُسْتَجيزا فيأتيه عِلم الحديث بل علوم الدنيا كلها في بطاقة ... أهذا هو العلم؟. وإنما هو شيئ اسمه جنون الرواية.

وقد أصاب كاتب هذه السطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة، ولم أتبيَّن منشأه في نفسي إلا بعد أن عافاني الله منه وتاب عليّ؛ ومنشؤه هو: الإدلال بقوة الحافظة، وكان من آثار ذلك المرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مضر وربيعة بجماهرها ومجامعها، وأن أنسُب جماهيرَ حِمير وأخواتها، وأن أعرف كل ما أثر عن دغفل في أنساب قريش، وما اختلف فيه الواقدي و محمد بن السائب الكلبي؛ ثمّ فُتِنْتُ بحفظ الأسانيد، و كدتُّ ألتقي عبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانين بالرواية، لولا أن الله سَلَّمَ، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهِمَ وهُضَمَ، لا ما رُوِيَ وطُوِيَ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير