قال الأزهري في تهذيب اللغة (مادة ثاثا):" عن ثعلب، عن ابن الأعرابي: الثَّوىّ: الضيف؛ والثوي: المجاورة في الحرمين."
وقال الزبيدي في تاج العروس (37/ 307) مادة (ثهو): الثَّوِيُّ: (المُجاوِرُ بأحدِ الحَرَمَيْن)؛ ونَصُّ ابنِ الأعْرابيِّ: بالحَرَمَيْنِ."
ومن هذا التعريف ندرك ما يقوله العوام في الزائرين والمعتمرين من أنهم ضيوف الرحمن، وهذا له وجهة قوية من النظر اللغوي، إذا الذي يأتي إلى الحرمين ليعبد الله تعالى ويظفر بالصلاة فيهما، هو ضيف الرحمن، فيحرم أذيته، لاجتماع الحرمة المكانية بالحرمة الحالية وهي كونه ثاويا في المسجد مجاورا له فهو ضيف البيت.
وبهذا ندرك المراد من هذا المصطلح الشرعي الذي جعله الله تعالى متعلقا بهذا الصنف من الناس، وهم ضيوف بيته المجاورون له الذي قَصدُهم المقام دون قصد الاعتكاف، لأن الاعتكاف غالبا يتقيد بمدة وشرائط بخلاف مطلق الإقامة والله أعلى وأعلم.
بيان المقصد من مجاورة الحرمين
إن معرفة مقاصد الأمر يؤثر في صحة العمل من عدمه، إذ من الممكن أن تصح الوسائل وتجتمع، ولكن المقصد يتخلف من الناحية الشرعية بكونه محرما في ذاته أو لغيره، ولهذا اعتبر علماؤنا رحمهم الله تعالى المقاصد كالوسائل من حيث الحكم، لأن كلا الأمرين مكمِّلٌ للآخر، فلا يمكن الوصول للمقصد إلا بالوسيلة، ولا تتخذ الوسيلة إلا عند إرادة مقصد معين، وقعدوا لذلك قاعدة جليلة هي (الوسائل لها أحكام المقاصد) ومثالها في أبواب العبادات والمعاملات الشيء الكثير، فمن ذلك الطهارة مع الصلاة، والزواج بنية تحليل المرأة البائن بينونة كبرى للزوج الأول وهو ما يعرف (بالتيس المستعار)، وطلب العلم من أجل الرياسة والمناصب وأشياء كثيرة؛ وأما المقصد من مجاورة الحرمين فهو لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: لمصلحة دنيوية، كقصد التجارة أو الزواج أو تعلم حِرفة أو علم دنيوي وما أشبه ذلك.
الأمر الثاني: لمصلحة دينية، كإرادة الحج أو العمرة، أو طلب العلم، أو الهجرة، أو المرابطة أو الأمن عند خروج الدجال وما أشبه ذلك.
وكُلٌّ من حيث الأصل جائز، مادام المتعلَّق أمر مشروع، ولكن المصلحة الدينية في هذا الأمر أشرف وأسمى من الدنيوية، وهذا لوجود الآثار الواردة في هذا الباب من استحباب المجاورة للأمر الديني والترغيب فيه، وسير سلف الأمة رضوان الله تعالى على هذا المنهج. وهذا ما سنلخصه في الفصل الآتي.
الأدلة على الترغيب في مجاورة الحرمين الشريفين
لقد وردت أحاديث وآثار في فضل مجاورة الحرمين الشريفين، وقد ترتب عن هذه النصوص المباركة اختلاف العلماء في حكم المجاورة والتفضيل بين مكة والمدينة، وهذا لما فيهما من الحرمة والتغليظ وتكثير الأجر من الله تعالى، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلامٌ نفيس في بيان حكم المجاورة أنقله لفائدته لأنه رحمه الله تعالى وفىّ المسألة حقها؛ قال بيض الله وجهه:" وأما المجاورةُ فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبَّة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المُقَام بها يُفْضي إلى الملْكِ لها، وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيَتَضاعف عليه العذاب؛ ولأنه يضيق على أهل البلد، قالوا وكان عمر يقول عَقِب المواسِم: يا أهل الشام شامَكم، يا أهل اليمن يمنَكم، يا أهل العراق [عراقَكم].
ولأن المُقيم بها يفوتُه الحجّ التَّام والعمرة التَّامَّة؛ فإنَّ العلماء مُتَّفقون على أنه إنْ أنشأ سَفَرَ العمرة من دُوَيرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التَّمَتعُّ والقِران ومن الإفْرَاد الذي يعتمر عقب الحَجّ.
... والمقصود هنا أنَّ مِن العلماء مَن كَرِهَ المُجاورة بمكة لِمَا ذكر من الأسباب وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وَقَعَت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الرَّاجِحة عليها.
قال الإمام أحمد، وقد سُئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به]، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّكِ لأحب البِقَاع إلى الله، وإنَّكِ لأحب إلي"، وجابر جاوَرَ مكة، وابن عمر كان يُقيم بمكة.
وقال أيضًا: ما أَسْهَل العِبادة بمكة، النَّظَرُ إلى البيت عِبَادة.
¥