وهكذا لفظ العقل يراد به الغريزة التي بها يعلم ويراد بها أنواع من العلم ويراد به العمل بموجب ذلك العلم، وكذلك لفظ الجهل يعبر به عن عدم العلم ويعبر به عن عدم العمل بموجب العلم
87
وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ودليله ومعلوله
89
وبالجملة فلا يستريب من تدبر ما يقول في أن الرجل لا يكون مؤمنا بمجرد تصديق في القلب مع بغضه لله ولرسوله واستكباره عن عبادته ومعاداته له ولرسوله، ولهذا كان جماهير المرجئة على أن عمل القلب داخل في الإيمان كما نقله أهل المقالات عنهم منهم الأشعري
96
وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين، وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما، كلفظ الففير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه، وكذلك لفظ المعروف والمنكر إذا أطلقا ... دخل فيه الفحشاء والبغي، وإذا قرن بالمنكر أحدهما ... أو كلاهما ... كان اسم المنكر مختصا بما خرج من ذلك على قول أو متناولا للجميع على قول بناء على أن الخاص المعطوف على العام هل يمنع شمول العام له؟ أو يكون قد ذكر مرتين؟ فيه نزاع
98
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام
99
والصواب أن القلب له عمل مع التصديق، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن.
100
وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمنا بالله ورسوله بقلبه هل / يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول؟ فمن المعلوم أن هذا ممتنع، فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من الإيمان، وكان عدمه دليلا على انتفاء حقيقة الإيمان
113
فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على بعض كبني آدم فإن الفرس الواحدة ما تبلغ أن تساوي ألف ألف.
116
وبهذا يتبين لك أن من زعم من أهل الكلام والنظر أنهم عرفوا الله حق معرفته بحيث لم يبق له صفة إلا عرفوها وأن ما لم يعرفوه ولم يقم لهم دليل على ثبوته كان معدوما منتف [كذا والصواب منتفيا] في نفس الأمر قوم غالطون مخطئون مبتدعون ضالون، وحجتهم في ذلك داحضة، فإن عدم الدليل القطعي والظني على الشيء ليس دليلا على انتفائه إلا أن يعلم أن ثبوته مستلزم لذلك الدليل، مثل أن يكون الشيء لو وجد لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، فيكون هذا لازما لثبوته، فيستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم كما يعلم أنه لو كان بين الشام والحجاز مدينة عظيمة مثل بغداد ومصر لكان الناس ينقلون خبرها، فإذا نقل ذلك واحد واثنان وثلاثة علم كذبهم.
وكما يعلم أنه لو ادعى النبوة أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل مسليمة والعنسي وطليحة وسجاح لنقل الناس خبره كما نقلوا أخبار هؤلاء، ولو عارض القرآن معارض أتى بما يظن الناس أنه مثل القرآن لنقل كما نقل قرآن مسليمة الكذاب، وكما نقلوا (الفصول والغايات) لأبي العلاء المعري، وكما نقلوا غير ذلك من أقوال المعارضين، لو بخرافات لا يظن عاقل أنها مثلهن فكان النقل لما تظهر فيه المشابهة والمماثلة أقوى في العادة والطباع في ذلك وأرغب سواء كانوا محبين أو مبغضين هذا أمر جبل عليه بنو آدم
/ كما يعلم أن علي بن أبي طالب لو طلب الخلافة على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وقاتل عليها لنقل ذلك الناس كما نقلوا ما جرى بعد هؤلاء، كما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلي بالناس صلاتهم لنقلوا ذلك، كما نقلوا أمره لأبي بكر وصلاته بالناس، وكما يعلم أنه لو عهد له بالخلافة لنقلوا ذلك كما نقلوا ما دونه، بل كما يعلم أنه لم يكن يجتمع هو وأصحابه على استماع دف أو كف ولا على رقص وزمر، بل كما يعلم أنه لم يكن بعد الصلوات يجتمع هو وهم على دعاء ورفع أيد، ونحو ذلك إذ لو فعل ذلك لنقلوه بل كما يعلم أنه لم يصل في السفر الظهر والعصر والعشاء أربعا وأنه لو صلى في السفر أربعا بعض الأوقات لنقل الناس ذلك كما نقلوا
¥