وقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي: بيَّن ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها. قال ابن عباس: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}: بيَّن لها الخير والشر، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثوري. وقال سعيد بن جبير: ألهمها الخير والشر. وقال ابن زيد: جعل فيها فجورها وتقواها)). اهـ وقال ابن عطية في تفسيره: ((ومعنى قوله تعالى {فجورها وتقواها} أي: عرَّفها طرق ذلك، وجعل لها قوةً يصحّ معها اكتساب الفجور أو اكتساب التقوى)). اهـ
قلتُ: وَجْهُ الاستدلالِ أنّ الله تعالى خلقَ النفسَ فسوَّاها وهداها، لقوله تعالى {الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى}. وفطَرَها على الحنيفية، لقوله تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناسَ عليها}. وجعل فيها الخير والشر والتقوى والفجور وأرشدها إلى هذا وذاك، لقوله تعالى {إنَّا هديناه السبيلَ إمّا شاكراً وإما كفوراً} وقوله سبحانه {وهديناه النجدين}. وبالتالي: فليس الأصلُ في الإنسان الانحراف، بل هذا الانحراف ينشأ عن زيغان الإنسانِ لقوله تعالى {وقد خابَ مَن دسّاها}.
وعلى هذا، فقولُه تعالى {إنه كان ظلوماً جهولاً} الذي ذَكَره الأخ الكريم لا يدلّ على أنّ فطرة الله هي الظلم والجهل (!) ومِثلُه أيضاً قوله تعالى {إن الإنسان لظلومٌ كفّارٌ} وهل الأصل في الإنسان الكفر؟! فعُلِمَ أنّ أوصاف الإنسان في القرآن مِن جهل وظُلم وعناد وجحود وغيرها، هي مِن شأن الطبائع البشرية المذمومة. وأما الفطرة التي فطر الله الناس عليها فالمقصود بها توحيدُ الله عز وجلّ، وهذا مِن شأن العقيدة.
قال الطبري في تفسيره (الأحزاب: 72): (({إنَّهُ كانَ ظَلُوماً} لنفسه {جَهُولاً} بالذي فيه الحظّ له)). اهـ وقال (إبراهيم 34): (({إنَّ الإنسانَ} الذي بدّل نعمة الله كفراً {لظَلُومٌ} يقول: لَشاكرٌ غيرَ مَن أَنعمَ عليه، فهو بذلك مِن فِعْلِه واضعٌ الشكرَ في غير موضعه. وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحقّ عليه إخلاص العبادة له، فعبد غيره وجعل له أنداداً ليضلّ عن سبيله، وذلك هو ظلمه. وقوله: {كَفَّارٌ} يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه)). اهـ
وقال الماوردي في تفسيره: (({إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً} فيه ثلاثة أوجه. أحدها: {ظلوماً} لنفسه، {جهولاً} بربه، قاله الحسن. الثاني: {ظلوماً} في خطيئته، {جهولاً} فيما حَمَّلَ ولده من بعده، قاله الضحاك. الثالث: {ظلوماً} لِحَقِّها، قاله قتادة. {جهولاً} بعاقبة أمره، قاله ابن جريج)). اهـ وقال البغوي في تفسيره: (({إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} قال ابن عباس: {ظلوماً} لنفسه {جهولاً} بأمر الله وما احتمل من الأمانة. وقال الكلبي: {ظلوماً} حين عصى ربه، {جهولاً} لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة. وقال مقاتل: {ظلوماً} لنفسه {جهولاً} بعاقبة ما تحمّل)). اهـ
قلتُ: فاتضح أن الظلم مرتبط بالتكليف، ولذلك قال تعالى {وقد خاب مَن حَمَل ظلماً} وهو كقوله {وقد خابَ مَن دسَّاها} الذي ذكرناه قَبْلُ. ومع ذلك فالقول بأنَّ أصلَ الإنسانِ الظلمُ والجهلُ استناداً إلى آية الأمانة - على رأي مَن قال بهذا - لا يُنافي أن الله خلق عباده وفطرهم على التوحيد. فهذا شيء وذاك شيء، ولا تعارُض بين هذه النصوص. والله الموفق.
تنبيه: أوردَ الأخ السائل قوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر} ولا أدري ما علاقته بهذه القضية! فالخُسر هو الخسارة والهلاك، وقال ربُّنا عَقِبَ ذلك {إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. والمعنى أنَّ الذين كفروا هم الخاسرون، والذين آمنوا هم الفائزون.
والله أعلى وأعلم
ـ[أبو قتادة وليد الأموي]ــــــــ[28 - 01 - 10, 01:45 ص]ـ
المسألة لها جهتان:
الأولى: هل الإنسان يولد ظلومًا جهولًا أم أنه يولد على الفطرة المنافية للظلم والجهل؟
الثانية: بعد ولادته على الفطرة هل يكون الأصل فيه الظلم والجهل أم ضدهما؟