ومع وضوح معالم الملك وظهور دلائله: فالموت آية متكررة هائلة، والحياة مثله، آيتان باهرتان، وخلق السموات والأرض وتزيينهما أكبر من خلق الناس، إلا أن هناك قلوباً جاحدة منكرة مستكبرة قاسية، لا يزيل قسوتها،ويذهب كبرياءها إلا النار تحرقهم فيستغيثون ويشهقون ويصرخون وهي تغلي بهم (وللذين كفروا بربهم عذاب جنهم و بئس المصير إذا ألقوا فيه سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا مانزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) [الملك: 6 - 11] وفي المقابل آخرون مصدقون بالله، معظمون له، خائفون من المقام بين يديه، يخشونه بالغيب؛ فيكفون عن المحارم ساعة الخلوة؛ لأنهم يعرفون قدر الملك المطاع فيخافون سطوته وأخذه: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير). [الملك: 12]
عود على بدء
فصفات ومعالم الملك في هذه السورة لا تنقضي، فالسر والجهر عند الله سواء حتى خواطر القلوب وخلجاتها، فمن خصائص الملك الحق أنه سبحانه هو الملك الذي يستحق الخشية والإجلال؛ لأنه المطلع على الغيب، ومكنونات الصدور مع الإحاطة بجميع المعلومات فليس ثمة ملك يخرج ما في القبور ويعلم ما في الصدور إلا الله سبحانه (وأسروا قولكم أو أجهروا به إنه عليم بذات الصدور) [الملك: 13].
ثم يتوجه الخطاب لمن يتوجه لغير الله من أصحاب الملك والجاه أو الآلهة الأخرى، يتوجهون لهم بطلب النصرة والرزق - التي هي من مظاهر الملك - أرأيتم إن منع الله عنكم النصر فمن يأتي بالنصر (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور) [الملك: 20]. وإذا أراد الله سبحانه ألا يرزقكم فأمسك رزقه فمن يأتيكم برزق (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) [الملك: 21] من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده؟ إنه لا أحد يعطي ويمنع، ويخلق ويرزق،وينصر إلا الله عز وجل وحده لا شريك له وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره،ويستمرون في طغيانهم وإفكهم وضلالهم) [3].
إن تدبر هذه السورة التي جاءت لتقرير عظمة ملك الله وسعة ملكوته يخرج القارئ منها بفائدتين:
الأولى: الإيمان بالله سبحانه؛ فقد دلت الدلائل على عظمته، وسعة ملكه، وعزته، ورحمته فهو ربنا لا رب لنا سواه سبحانه هو الرحمن الرحيم.
الثانية: التوكل عليه وتفويض الأمر له، فمن آمن بالله، وفوض أمره إليه، وجعل معتمده عليه، ووثق بعطائه وأخذ بأسباب رزقه ونصره؛ أخذ بيده ونصره ورزقه. (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين) [4] [الملك:29].
وتختم السورة بنحو مما بدأت به: من أن الخير في يديه سبحانه، فلو غارت المياه وأجدبت الأرض فلا يأتي بالماء المعين إلا من بيده الملك وهو على كل شيء قدير. (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين) فلا ينال بالفؤوس الحداد، ولا بالسواعد الشداد، فلا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل [5].
هذه سورة الملك، وهذه معالم وخصائص الملك الحقيقي التي إذا قرأ ها القارئ خرج وقد عرف ربه بأنه الذي بيده الملك الحقيقي، وهو على كل شيء قدير.
والحمد لله أولاً و آخراً، وظاهراً وباطناً.
* / كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم - الدراسات العليا
21/ 6/1428
[1] ينظر: التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور 1/ 89 44، 4492.
[2] ينظر: تفسير ابن كثير 1/ 219.
[3] ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/ 512.بتصرف
[4] أفادني هذه الفائدة فضيلة الشيخ الدكتور: أحمد الشرقاوي وفقه الله.
[5] ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/ 513 بتصرف