ثم نقلَ بعدَ ذلك عن القاضي أبي بَكرٍ الباقلاني قوله: " لا أنفي صفة المعرفة عن الذي خالف في صفة نفسية، ما لم تقم دلالة سمعية على تكفيره " (4)، وهذا القول مطابق لقاعدتهم في أنَّ التكفير حكم شرعي، لكن الجويني جعلَهُ مرجوحاً!
قال مقيده عفا الله عنه: إن كان التكفيرُ حكماً شرعياً فأينَ في الشرع تكفيرُ من اعتقد التحيُّزَ – لفظاً أو معنى -؟!
بل " هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شيء من كتبِ الله المنزلة من عنده، ولا هو مأثوراً عن أحدٍ من أنبياء الله ورسله، لا خاتم المرسلين ولا غيره، ولا هو أيضاً محفوظاً عن أحدٍ من سلف الأمة وأئمَّتِها أصلاً " (5).
وأين فرَّق الشرع بين حكم جاهل الصفات النفسية وجاهل الصفات المعنوية – لفظاً أو معنىً -؟!
فهذا يدلُّكَ على أن الجويني خرمَ قاعدة الأشعرية في أن التكفيرَ حكمٌ شرعيٌّ.
ولذلك لمَّا لم يكن الشرعُ هو المعيارُ عندهُ في هذه المسألة – أعني حكمَ من جهل شيئاً من الصفات -، حصل بينهُم فيها نزاعٌ واضطرابٌ، وهذا شأنُ كلُّ مسألة لا تحالُ على الشرع للفصلِ فيها، بل قال بعضهم: إن كان الجهل ببعض الصفات كفراً فإنه يلزم منه تكفيرُ بعض أئمَّتِهم، لأنَّهم مختلفون في كثيرٍ من الصفاتِ، فإن كان الجهلُ فيها كفراً كان بعضُهم كفاراً!
وهذا اللازمُ أزعجَ الجويني فحاولَ الانفصال عنه بكلامٍ خطابيٍّ (6).
ولما رأى الصفيُّ الهندي أن تعريف الكفر بالجهل يؤول إلى تكفير بعض أئمة الأشاعرة، عدل عنه إلى تعريف الغزالي: أنه تكذيبُ الرسول في شيءٍ ممَّا جاءَ به (7).
وليتهم يلتزِمُون بهذا التعريفِ – بعجره وبجره - فلا يُكفِّرُون إلا من كذَّب بشيءٍ مما جاء به الرسولُ، ويدَعونَ تكفيرَ الناس وتبديعَهُم وامتحانَهُم لمُجرَّدِ مخالفتِهِم لمقالاتهم!
والمصيبةُ أنَّ هذه المقالات البدعية تلقَّاها أتباعٌ مقلدة متعصبون، فنزَّلُوها منزلةَ الدين المنزلِ من رب العالمين، فأخذوا يمتحنون الناس عليها، يكفِّرونَ ويبدِّعُون، يطعنُون ويقدحُون، فجمعوا بين الزيغِ عن الحقِّ وظلمِ الخلق!
وليتهم إذا طُلِبَت منهم المناظرة على مقالاتهم هذه استطاعُوها، بل يخنسون ويبلسون، ويسعونَ بالكيدِ والمكرِ للنِّكَايةِ في خصومِهم، واعتبر ذلك بما جرى لابن تيمية حين حبسوه في الجب من قلعة جبل في مصر سنة 706هـ، لا لشيء إلا لمخالفته لهم في اعتقاداتهم البدعيَّةِ، وكان أولُّ شرطٍ اشترطُوه عليه إذا أراد الخروجَ أن ينفي الجهةَ عن الله والتَّحَيُّز (8)، وهكذا تجعل المقالات البدعيَّةُ محنةً يُمتحن الناس عليها!
وكان مما أجاب به ابن تيمية هؤلاء المقلدة: " ليسَ لأحدٍ من الناس أن يُلزمَ الناس ويوجبَ عليهم إلا ما أوجبهُ الله ورسولُه، ولا يحظرَ عليهم إلا ما حظرَهُ الله ورسولُه، فمن أوجب ما لم يوجبه اللهُ ورسوله وحرَّمَ ما لم يُحرِّمهُ الله ورسولُه فقد شرع من الدِّينِ ما لم يأذن به الله، وهو مضاهٍ لما ذمَّهُ الله في كتابه من حالِ المشركين وأهلِ الكتابِ الذين اتَّخذُوا ديناً لم يأمرهم الله بهِ، وحرَّمُوا ما لم يُحرِّمهُ الله عليهِم، وقد بيَّن ذلك في سورة الأنعامِ والأعرافِ وبراءة وغيرهنَّ من السور، ولهذا كان من شعارِ أهل البدع إحداثُ قولٍ أو فعلٍ وإلزامُ الناس به، وإكراهُهُم عليه والموالاة عليه والمعاداة على تركه، كما ابتدعتِ الخوارجُ رأيَهَا وألزمتِ الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعتِ الرَّافضَةُ رأيها وألزمتِ الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الجهميَّةُ رأيها وألزمتِ الناس به ووالت وعادت عليه؛ لمَّا كانت لهم قُوَّةٌ في دولةِ الخلفاء الثلاثةِ الذين امتُحن في زمنهم الأئمَّةُ لتوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق، وعاقبُوا من لم يوافقهم على ذلك.
¥