تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(إحياء العقل)، وهذه هي البداية الحقة لأي نهضة مستنيرة نافعة، إذ لا نهضة حقيقية - في أي حقل - في غياب العقل، أو في حال تحجره وجموده .. والنبي هو إمام الصحابة ومعلمهم ومزكيهم .. ولقد ورث التابعون هذا (الأصل العقلاني) عن الصحابة .. ثم تتابع ضياء هذا الإرث في القرون المستنيرة الصالحة من بعد .. ومنها - بالقطع - القرون التي ظهر فيها الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل (والترتيب هنا وفق الوجود التاريخي المتتابع لهم).

ومن الغرائب - التي تصطدم بأصل العقلانية عند السلف -: أن هناك من يجعل (سلفية) الإمام أحمد مثلا في مقابل نقيض وهو (عقلانية) المعتزلة، وكأن المعتزلة (أعقل) من الإمام أحمد، على حين أن العكس هو الصحيح (نقول ذلك دون تجريد لعدول المعتزلة من كل فضيلة) .. مثال ذلك: أن المعتزلي اخترع إشكالا من عند نفسه حين قاس يد الله – تعالى - على يد نفسه!، وهذا موقف غير عقلاني، لأن القياس العقلي إنما يكون بين المتماثلات .. والتماثل منفي - ها هنا - .. ثم حاول المعتزلي الخروج من هذا الإشكال بنفي صفة اليد عن الله عز وجل .. لكن الإمام أحمد - وأمثاله من أئمة السلف - آمنوا بصفات الله كما وردت في الكتاب والسنة - وهذا عين العقل - ذلك أن معظم المعارف في حياة الناس هي معارف (خبرية): لا عَيَانِيّة .. ومع ذلك لسائل أن يسأل - طلبا لمزيد من الاقتناع - وأين دور العقل الراجح في قضية الأسماء والصفات؟ .. والجواب هو: أن العقل يؤمن - بادئ ذي بدء - بوجود الله عن طريق البراهين الكونية التي تؤدي بالضرورة - لدى الأسوياء من الناس - إلى الإيمان بوجود الله. لكن الإيمان بأسمائه وصفاته لا يكون إلا عن طريق الوحي وحده .. لماذا؟ لأن الناس لا يرون الله ليتسنى لهم وصفه سبحانه - حيث إن الوصف الحقيقي لا يكون إلا بالرؤية - .. ولقد قيل (ولا يتقن الوصف من لم يشاهد) .. وإنما الذي يصف نفسه هو الله وحده، ولأجل هذا نزل الوحي على الأنبياء والمرسلين، ذلك أن أول مقصد من مقاصد الوحي هو: تعريف الناس بربهم جل ثناؤه: تعريفهم بأسمائه وصفاته .. ولقد قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسُب لنا ربك .. صِفْ لنا ربك. فجاء العلم بالأسماء والصفات من الله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) .. والبرهان العضد هو: أن الناس حين حاولوا التعرف على أسماء الله وصفاته بدون وحي: تخبطوا وتاهوا وضلوا ضلالا بعيدا في وصفه سبحانه. ولذا استفاضت الآيات التي تنزه الله عن هذا الوصف الضال الجاهل والتي تثبت له ما يليق بجلاله وكماله .. ومن ذلك آيات الأنعام: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

وعوْد على منشأ السياق - في هذا المحور العقلاني - نسأل: أي الفريقين أوفى ذكاء، وأرجح عقلا: (المعتزلي) الذي عطل فتورط فنفى فتورط - أيضا - بناء على قياس عقلي فاسد؟ .. أم (السلفي) العاقل الذي أثبت الإيمان بوجود الله عقلا، وأثبت الإيمان بالأسماء والصفات: وحيا وخبرا. وهو خبر يعقله العقل أيضا، أي من حيث الاقتناع العقلي بقدرة الله المطلقة على ابتعاث الرسل وإنزال الكتب التي (تخبر) الناس بأسماء الله وصفاته: خبرا عليما حقيقيا يقينيا منزها عن التخرصات والظنون والأوهام، لأنه خبر مصدره الله العليم بنفسه وأسمائه وصفاته تقدس في علاه: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)؟

وبمقتضى هذا الأصل (العقلاني والخبري): اجتمع الأئمة الكبار، ولم يختلفوا في أصول الاعتقاد .. فعقيدة الأئمة الأربعة المشهورين (أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) هي (عقيدة واحدة) في الأسماء والصفات وفي سائر أمهات الاعتقاد. بل إن ما حرره الأحناف والمالكية والحنابلة في هذا الاعتقاد يكاد يكون (متطابقا) حتى في لفظه، وكأن (لجنة مشتركة) قد حررت هذه العقيدة وصاغتها وضبطت عبارتها:

1 - نجد ذلك فيما حرره أبو القاسم اللالكائي في (أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) حيث لخص اعتقادات أحمد بن حنبل، والبخاري، والثوري، والأوزاعي، وابن عيينة، وابن المديني، وأبي ثور، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والتستري، وابن جرير الطبري.

2 - ونجد ذلك فيما كتبه (القيرواني) المالكي في مقدمة الرسالة حيث حرر عقيدة المالكية، بَلْه أهل السنة والجماعة.

على أن (الأصل العقلاني) - عند السلف - مستصحب كذلك في مجال الفقه: باطراد وتوسع. فـ (القياس) من أوسع أبواب الاجتهاد الفقهي .. والقياس (عمل عقلي) في الصميم.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير