يكاد حفظ القرآن كاملاً يكون أهمَّ هدف تسعى إليه البنت في الدرس، إنه قمة العمل الصالح، سعادةُ البنت وفخرها وفخر آنستها وأهليها، ومذ بدأت حضور الدروس وضعتُ نصب عينيّ ذلك الهدف، وإن كنت متخوّفة أنه هدفٌ أكبر من طاقتي
كنت أحفظ في البيت وحدي، تارة أحدد لنفسي قدْراً من الآيات ولا ألتزم بها، تارة أندفع بهمة أكبرَ، ثم أتباطأ وأتكاسل، وبين الحين والآخر كنت أجد من تسمع مني قبل حضور الآنسة، ولعله كان يُخصّصُ وقتٌ لذلك أحياناً
كنا نحفظ دون تفكير، لا أدري كيف تضبط قراءة الرفيقات قبل الحفظ، كنت أحصل على الرضا لأني أحفظ بصورة صحيحة، خاليةٍ بالطبع من أحكام التجويد، إلا ما تعلمته في الابتدائية، أو التقطته في البيت ..
كانت ساعاتٍ مميزة، تلك التي أمسك فيها بالمصحف الصغير، ثم أدور في فِناء المنزل، أو أنتقل من غرفة إلى أخرى، أو أمكث قليلاً في غرفة خالية
لم يكن ثمةَ موعد نهائيّ للحفظ في تلك الأيام، سمعت أن بيننا حافظةٌ أو اثنتين لكنهما أكبرُ مني، ومن المشاهد التي أذكرها بوضوح، مشهدُ صبيةٍ دافئة النظرة تجلس تجاهي، تسند رأسها إلى كفها، وتهزّه رضاً وإعجاباً وهي تسمع مني ما حفظت .. وكم كان سروري بإعجابها بقراءتي الصحيحة، وأحكام النون الساكنة والتنوين التي أتقنتها (لعلي) لكن لم أتعلم غيرها بعدُ .. هذه الصبية ستنقل للآنسة رأيَها في حفظي أو تبلغُها بمقدار ما حفظت
في أواخر أيامي تلك، انتابني حماس كبير مرة فنمت في بيت ابنة خالتي، لننهض معاً للحفظ بعد صلاة الفجر .. خرجنا إلى الشرفة العريضة نذرعها جيئة وذهاباً، نحفظ ونراجع، على حال من البهجة الصافية البريئة
ومن النظرات وبعض الكلمات الشائعة التي تخفق لها قلوب الصغيرات (يا حبيبة قلبي، ما شاء الله حولها .. الله يرضى عليك .. مثلاً) كنت أعرف أني سائرة على السكة المطلوبة
وكان محبَّذاً أن نقرأ ما حفظنا في الصلاة، كنت أحاول، لكن هذا يطيل الصلاة وأنا فتاة مشغولة الذهن دائماً بمشاريعَ تتوالدُ باستمرار، أهمُّها العودة إلى قصة أقرؤها، أو واجبٍ مدرسيّ لا يخلو من تحدٍّ
وماذا غير حفظ القرآن؟
أذكر أنا مرة فسرنا شيئاً من سورة النور .. تحمّست وصرت أقرأ في أحد التفاسير قبل ذهابي، لكن التفسير لم يستمر، لم ننهِ السورة، ولا شك أن الغاية منها كانت آياتِ الحجاب
هل كُلفنا بقراءة كتب أو موضوعات معينة؟
أبداً (حدث ذلك في فترات لاحقة بعد انسحابي، لكني لم ألمس له تغييراً
في أساليب التفكير والتعامل) مرة واحدة وزع علينا أو اشترينا كتيباً صغيراً في الفقه الشافعي (متن الغاية والتقريب) لأبي شجاع، شرحت الآنسة قدراً من باب الطهارة، ولا زلت أذكر حتى اليوم كيف استفاضت في شرح الخارج من السبيلين، وأتت على احتمالات لم تكن تخطر لي على بال .. وكم كتمنا ضحكاتِنا المتظاهرةَ بالاستهجان .. ثم امتحنتنا فيما درسناه من مسائل الطهارة ..
فعمَّ إذن كان يدور الدرس؟
الحق أني مذ بدأت هذه الحلقات شغلني هذا السؤال، وهو سؤال صعب .. فحين تقضين ساعتين إلى ثلاث ساعات في الأسبوع في درس، ليس فيه إلا الوعظ والتأنيب والتخويف أو التغزل بصفات محمد صلى الله عليه وسلم وسيلة للتحبيب به، وحكايات الصالحين، دون مناقشة أفكار أو مفاهيم محددة، تصبح القصص هي الفكرة والدليل والشاهد معا. حتى من السيرة الشريفة، كنا نتعرض فقط لما يتعلق بحب الصحابة لنبيهم، كموقف أبي بكر رضي الله عنه يوم الهجرة، وكانت الآنسة تتفنّن في رسم الصورة الذهنية بكلماتها وتنجح في هذا .. ولم يكن يطلب إلينا العودةُ إلى كتب السيرة، ولا غيرها من قصص الصحابة والشهداء مثلا .. ولا أذكر أنه مر أمامي يوماً ذكرُ خالد بن الوليد، أو موقف قوةٍ لعمر رضي الله عنهما .. أو حتى عن برّ الوالدين، لعل الأمور اختلفت قليلاً اليوم، لكن (أنت تحصل على ما تراه) كما يقولون بالإنجليزية، خط الجماعة (وإن كنت أفضّل مصطلح التنظيم) لا زال كما هو، وإلا فأين التغيير الحقيقي في المجتمع؟
إن الأمهات هن عماد التأثير والتغيير في الأمم، ولقد كانت القبيسيات ولا زلن هن المرشحات أكثر من أي شريحة في المجتمع السوري المحافظ للاقتران بالشاب المتدين، حتى
إن الشاب من أي جماعة حتى (الإخوان المسلمون) لم يكن يجد إلا القبيسية زوجة تصلح له، إذا قارنها بالسافرة أو المحافظة دون التزام، حتى كثر ذلك بصورة لافتة، وصار موضوع تندُّر، ولا زال مستمراً إلى يومنا هذا، ذلك أن تغطية الرأس والجسم هي مقياس التدين الوحيد تقريباً في مجتمعاتنا حتى اليوم، وإن من المشهور المعروف أن القبيسية نادراً ما تتحول عن طريقها، وقد تؤثِر جماعتَها على زوجها وبيتها، الذي يتحول تلقائياً إلى بيت للتنظيم، تُعقد فيه الدروس والموالد ومجالس الذكر الجماعي المسماة (حضرات)، ومن هنا كانت أمام القبيسيات فرصة كبيرة لإنشاء أجيال مسلمة أبية قوية تسعى إلى النهوض بالمجتمع نحو الحرية والعدالة والاستقامة والعزة الإيمانية .. أما ما نراه حتى اليوم فهو نوع من التكيف، أو التصالح مع ما تمليه الدولة بما يضمن لهن الاستمرار في نشاطهن (آخر ما سمعته أن الأناشيد الدينية/ على ما فيها/ منعت في صالات الأفراح التي تملكها القبيسيات في دمشق ويشرفن عليها، فرضين بالأغاني الشائعة التي يفترض ألا يسمعها المسلم حتى لو كان يبيح لنفسه شيئاً من السماع المنضبط) بل إني لأجتهد بأنهن كنّ خير عون بقصد أو بغير قصد، للحكم الذي يستمد مرجعيته العقدية والأخلاقية!! والسلوكية من حزب البعث (العربي الاشتراكي!) .. الغني عن التعريف، والذي يحكم سورية منذ سنة 1963
...
أصغي، أصغي، أصغي .. لا تسألي ولا تتساءلي فليس هذا من شيم من تريد الارتقاء، أحبي الآنسة، ابكي صلّي، صومي، ومن الليل قومي، أقنعي بنتاً بالحضور معك .. البسي المطلوب، احضري الموالد واحتفالات ختم القرآن وحجاب فلانة وعرس أخرى، وولادة ثالثة (فهناك تجدين الآنسة) .. اذهبي إلى المدرسة الفلانية لتساعدي في تنظيفها، اذهبي إلى بيت الآنسة فلانة لتساعديها في بيتها وأطفالها لأن عليها مَهمّات جِساماً ..
هل هذا هو كل الإسلام؟ وماذا بعد؟ أسئلة لن تَجِدي من يطرحُها علانية هنا ...
¥