تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

4 - سواء قلنا بإجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة أم خلافهم فإن القدر الثابت هو أنه لم يكن من المقالات القائمة بين السلف: هل يمتنع تكفير تارك الصلاة لأنه مجرد متكاسل ولا يقصد الكفر، فهذا باب لم يطرقوه قط ولا أصل له في نظرهم، فنحن الآن متفقون على أن من السلف من كفر تارك الصلاة تكاسلاً، ومتفقون على أن التارك تكاسلاً لم يقصد الكفر، ومع ذلك فلا الذين كفروه اعتبروا كونه لم يقصد الكفر، ولا الذين لم يكفروه حاجوا مخالفيهم بأنه لم يقصد الكفر. وهذا بين جداً في كون هذا الباب باب محدث مبتدع لم يعرفه الصدر الأول.

5 - ويتمم إيضاح ذلك: أنه لو كان مناط إيقاع التكفير هو قصد الكفر من عدمه لما تكلم السلف في أبواب إقامة الحجة والإعذار بالجهل والتأويل ونحوها؛لأن عدم قصد الكفر سيكون كافياً لمنع التكفير ولا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله،فما الحاجة لأبواب الإعذار كلها إذاً.

ومن كلام الشيخ في نقضه قوله: ((وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَكْذِيبِ الْقَلْبِ وَجَهْلِهِ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ الْمُكْرَهَ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَعُلِمَ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ لَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ. وقَوْله تَعَالَى ** وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أَيْ: لِاسْتِحْبَابِهِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ** يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ مِنْ الدُّنْيَا} وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَالْمُسْتَضْعَفِي نَ لَمَّا أَكْرَهَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الْكُفْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِلِسَانِهِ كَعَمَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمِحْنَةِ كَبِلَالِ وَلَمْ يُكْرَهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ بَلْ أُكْرِهُوا عَلَى التَّكَلُّمِ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِدُونِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا وَصَدْرُهُ مُنْشَرِحٌ بِهِ)).

وقوله: ((فصار كل من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما أنه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم فإذا عدم المعلول كان مستلزما لعدم العلة وإذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الآخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرا.))

وقوله: ((ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به والأغراض في الغالب إما مال أو شرف كما أن المسيء إنما يقصد إذا لم يقصد مجرد الإضلال إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال أو فعلما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله)).

فالدين فرق بين بابين:

من قصد الفعل يظن الفعل ديناً أتى به الوحي فهذا يعذر في الجملة ولا تترتب على فعله آثاره كمن شرب الخمر يظنه ماء قراحاً .. فهذا لا يقام عليه الحد ..

ومن قصد الفعل يعلم أنه ليس الدين وأنه حرام فهذا لا يعذر وتترتب على فعله آثاره كمن شرب الخمر ولم يُرد أن يقام عليه الحد .. فلا عبرة بإرادته ويقام عليه الحد ..

وبعض الباحثين حاول التسوية بين الإعذار بالتأويل والإعذار بعدم قصد الكفر أو عدم قصد مناط التكفير فيقال:

بلا شك مانع التأويل قال به السلف ..

ومانع التأويل متضمن لعدم قصد الكفر ولذا ذكرته أنا في أقسام قصد الكفر وهو النوع الرابع ..

وهو من لم يقصد الكفر لأنه قصد الإيمان ..

ولكن قصد الكفر هنا هو لازم نتج عن المانع الحقيقي وليس هو المانع؛فمانع التأويل هو في لبه إعذار بقصد الإيمان وإرادة الحق وعدم قصد الكفر إنما نتج ولزم عن قصد الإيمان ..

أما الصورة محل النزاع فقد قصد صاحبها العصيان ولكن لم يقصد ترتب أثر العصيان عليه ..

فالوصف المؤثر في مانع التأويل ليس هو عدم قصد الكفر؛لأن عدم قصد الكفر يقع من المتأول ومن غير المتأول ..

وإنما الوصف المؤثر في الإعذار بالتأويل هو ما يتضمنه معنى التأويل نفسه وهو إرادة الحق من جهة الله والرسول وقصد فعل الإيمان وظن الفعل المكفر من الدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ..

ولو عدنا للمثال المذكور:

رجل شرب الخمر يظنها ماء قراحاً بدلالة العبوة المعبأ فيها فهذا لم يرد أن يحد ..

ورجل شرب الخمر وهو يعلم أنها خمر محرمة ولكنه شربها على سبيل الهذر ولم يرد أن يقام عليه الحد ..

كلاهما لا يريد أن يقام عليه الحد لشربه الخمر ..

ولكن عدم الإرادة هذا وإن إشتركا فيه إلا أنه ليس وصفاً مؤثراً في الإعذار،وإنما يعذر الأول ولا يعذر الثاني ..

ولو طلبت الوجه الذي منه أُعذر الأول ولم يعذر الثاني لوجدت أن الأول متأول أن ما سيشربه ليس محرماً بل هو مما أباحه الوحي ..

أما الثاني فيعلم أن ما سيشربه حرمه الوحي ولكن غاية ما معه أنه لم يرد أن يصاب بحد ..

ولذا وعلى الرغم من كون العذر بالتأويل مجمع عليه بين السلف إلا أن أحداً منهم لم يدخل تحته العذر بعدم قصد الكفر مع العلم بالحرمة وإلا لما تصور أن يقول واحد منهم قط بكفر تارك واحد من المباني الأربعة تكاسلاً ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير