[حكم العرف في الدين]
ـ[ Abou Anes] ــــــــ[30 - 03 - 02, 02:16 م]ـ
الضابط الخامس: جريان التكليف الشرعي على اطراد العادات في الخلق، (ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون)؛ لأن العوائد ثابتة دائمة على مقتضى سنن الله في الوجود التي لا تبديل لها، بل إن اعتبار العادات سبب لثبات الشرع وعدم تبدله وتغيره، فإن الشريعة جاءت (التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر .... ، ولو اختلفت العوائد لا قتضى ذلك اختلاف التشريع، واختلاف الترتيب، ولختلاف الخطاب، فلا تكون الشريعة على ماهي عليه). [الموافقات 2/ 279].
بل لولا اعتبار ما جرت به العادات لما عرف أصل الدين؛ لأن الدين لا يعرف إلا بالنبوة، ولا سبيل إلى معرفة النبوة إلا بالمعجزة، ولا تكون المعجزة إلا بخرق العادة المتقرر اطرادها في الماضي والحال والاستقبال، (ولولا استقرار العلم بالعادات لما ظهرت الخوارق)؛ ولهذا الاعتبار جرى على ألسنة الفقهاء (العادة محكمة) واعتبروها من قواعد الفقه التى تجري في كثير من أبوابه.
والعوائد بالنسبة إلى وقوعها في الوجود قسمان:
القسم الأول: (العوئد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كالأكل والشرب والفرح والحزن والنوم واليقظة، والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات، واجتناب المؤلمات والخبائث ... ، فيقضي به على أهل الأعصار الخالية، والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل ... ، فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا.
والثاني: العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال، كهيئات اللباس والمسكن، ... فلا يصح أن يقضى به على ما تقدم البتة، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، ... وكذلك في المستقبل) [انظر: المنثور في القواعد للزركشي 2/ 356، وكتاب القواعد للحصني 1/ 357].
هذه العادات منها ما أقره الدليل الشرعي وجوبا أن ندبا، أو نفاه تحريما أو كراهة، كالأمر بإزالة النجاسات، أو النهي عن الطواف عريانا، وما أشبه ذلك، فما حسنه الشرع من ذلك لا يمكن أن يكون قبيحا، وما قبحه لا يمكن أن يكون حسنا، فلا يمكن أن يقال: إن كشف العورة كان قبيحا عند نزول التشريع سيكون حسنا بعد ذلك.
ومن العوائد ما لم يقره أو ينفيه الدليل الشرعي، لكنه ثابت لا يتغير ولا يتبدل، كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع، وعادات النظر والكلام والمشي والغضب والنوم، فهذه أسباب لأحكام تترب عليها، فلا يتعلق بها تحسين ولا تقبيح شرعي لذاتها، ولكن باعتبار ذرائعها ومآلاتها، فمن تذرع للأكل بالكسب الحرام فهو قبيح، ومن تذرع له بالحلال فهو حسن، ومن مشى للطاعة فهو حسن، ومن مشى للمعصية فهو فبيح، وهكذا، قد تكون العادات متبدلة غير ثابتة، فتتبذل أحكامها تبعا لها، مثل كشف الرأس قد يكون في زمن أو مكان قبيح لذوي المروءات مسقطا للعدالة عرفا، قد يكون في زمن آخر أو مكان آخر غير قادح في العدالة، فيكون الحكم الشرعي تبعا في ذلك للعرف والعادة.
ومثل أن تكون العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول في بلد من البلدان أو زمن من الأزمنة دون غيره، فيكون الحكم تبعا لذلك.
ومما يلحق بذلك اختلاف عادات الناس في التعبير عن المعاني بين أرباب الصنائع وأهل العلوم والفنون فتجري الأحكام في الأيمان والعقود والطلاق وأمثال ذلك لكل أناس على مقتضى اصطلاحهم وإن اتحد اللفظ تبعا للعادة الخاصة بذلك.
(واعلم أن ما جرى ذكره هاهنا من اختلاف الأحكام عند العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، .... ، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها). [الموافقات 2/ 285ـ286].
(قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف). [الأشباه والنظائر ص 98].
ولا يمكن فهم مراد الشارع ولا تطبيقه إلا بالتسليم بأن (العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعا، ... فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، ... مما يدل على وقوع المسببات عن أسبابها دئما، فلو لم تكن المسببات مقصودة للشارع في مشروعية الأسباب لكان خلافا للدليل القاطع، ... ولو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق). [الموافقات 2/ 286ـ288].
لإنه (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها بأسباب وطرق يقضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة لها، ... فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، هي مقصودة قصد الوسائل). [أعلام الموقعين لابن القيم 3/ 135].
ولا شك أن ما سبق من كلام يجري على العوائد الكونية التي على ضوئها قدر الله سير حياة الناس، مثل حركة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، واختلاف الفصول، وتناول الطعام والشراب والمنام.
أو عوائد اعتادها الناس واصبحت عرفا عاما زمانا ومكانا أو خاصة بزمان أو مكان دون غيره، مثل كيفية اللباس، أو طريقة تناول الطعام والشراب، أو كيفية دفع صداق ومهر العروس، واشباه ذلك مما تنزل عليه أحكام الشرع وأدلته، كما تقدم بيانه.
هذا الكلام منقول عن رسالة بعنوان " المختصر الوجيز في مقاصد التشريع" لمؤلفه الشيخ الدكتور عوض بن محمد القرني.
الصقحة 99ـ104.
مثال على العرف ما ذكره الإمام المحقق ابن قدلمة المقدسي في كتابه المغني، قد كان حينها يتكلم عن العورة في الصلاة (فإذا ثبت هذا فإن حد الكثير ما فحش في النظر ولا فرق في ذلك بين الفرجين وغيرهما واليسير مالا يفحش والمرجع في ذلك إلى العادة). [المغني المجلد الاول].