[من البدع ما يكون صغيرة!]
ـ[ Abou Anes] ــــــــ[30 - 04 - 02, 10:15 م]ـ
كتاب الإعتصام. للإمام الشاطبي.
الجزء:1
الصفحة:337
إذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة، فذلك بشروط:
أحدها: أن لا يدوام عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه، لأن ذلك ناشىء عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: " لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار " فكذلك البدعة من غير فرق، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها، وقد لا يصر عليها، وقد لا يصر عليها، وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطه الشاهد بها أو عدمه، بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة، ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة، والدليل على ذلك الاعتبار والنقل، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار، ومن طالع سير المتقدمين، وجد من ذلك ما لا يخفى.
وأما النقل، فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضياً، وليست كذلك المعاصي، فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله، بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق، حيث جاء في بعض الروايات:
تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها حسبما تقدم.
والشرط الثاني: أن لا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه، فإنه الذي أثارها، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها، فإن الحديث الصحيح قد أثبت:
" أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً " والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته، فربما تساوي الصغيرة ـ من هذا الوجه ـ الكبيرة أو تربى عليها.
وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج، فإن المعصية فيما بين العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما يتعذر عليه مع الدعاء إليها، وقد مر في باب ذم البدع وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله.
والشرط الثالث: أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنن، وتظهر فيها أعلام الشريعة، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو بمن يحسن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام، فإنها لا تعدو أمرين: إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أبتاع كل ناعق، لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس، والتي للنفوس في تحسينها هوى، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه، لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر.
وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي، فإن العالم مثلاً إذا أظهر المعصية ـ وإن صغرت ـ سهل على الناس ارتكابها، فإن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب، لم يرتكبه، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا. فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى فيها، لا محالة، فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل، لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه، بل البدعة أشد في هذا المعنى، إذ الذنب قد لا يتبع عليه، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالماً بأنها بدعة مذمومة، فحينئذ يصير في درجة الذنب، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك، فإن كان داعياً إليها فهو أشد، وإن كان الإظهار باعثاً على الاتباع، فبالدعاء يصير أدعى إليه.
وقد روي عن الحسن أن رجلاً من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فيجعل يبكي ويعج إلى ربه، فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب. فكيف بمن ضل فصار من أهل النار؟
¥