وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر، فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها.
قال أبو مصعب: قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوامالكاً ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال: من ها هنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه: فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له: ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في لاصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في غيره.
وفي رواية عن ابن مهدي قال: فقال: يا عبد الرحمن! تصلي مستلباً؟ فقلت: يا أبا عبد الله، إنه كان يوماً حاراً ـ كما رأيت، فثقل ردائي علي. فقال: آلله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه؟ قلت: آلله، قال: خلياه.
وحكى ابن وضاح قال: ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك، فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زماناً، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له: ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له: ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب. فقال له: لا تفعل. فكف زماناً. ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه.
قال ابن وضاح: وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنما أحدث هذا بالعراق. قيل لابن وضاح: فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار؟ فقال: ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين.
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمراً محدثاً، وقد قال في التثويب: إنه ضلال، وهو بين، لأن:
" كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثاً أحدثه.
وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدي تثويباً عند طلوع الفجر وهو قولهم أصبح ولله الحمد إشعاراً بأن الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة، وللغد ولكل ما يؤمرون به. فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويباً بالصلاة كالأذان. ونقل أيضاً إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية، وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها، فصار ذلك كله سنة في المساجد إلا الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح. وهذا نظير قولهم عندنا: الصلاة ـ رحمكم الله.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل مسجداً أراد أن يصلي فيه، فثوب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد، وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه. قال ابن رشد: وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله: حي على الصلاة: ثم ـ قال ـ وقيل: إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه: حي على خير العمل. لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة. ووقع في المجموعة: أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه، كفعل ابن عمر رضي الله عنهما.
¥