أحدهما: أن اللام في البول للتعريف، فتفيد ما كان معروفًا عند المخاطبين، فإن كان المعروف واحدًا معهودًا فهو المراد. وما لم يكن ثم عهد بواحد، أفادت الجنس؛ إما جميعه على المرتضى، أو مطلقه على رأي بعض الناس، وربما كانت كذلك. وقد نص أهل المعرفة باللسان والنظر في دلالات الخطاب أنه لا يصار إلى تعريف الجنس إلا إذا لم يكن ثم شيء معهود، فأما إذا كان ثَمَّ شيء معهود مثل قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16]، صار معهودًا بتقدم ذكره، وقوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور: 63]، هو معين؛ لأنه معهود بتقدم معرفته وعلمه، فإنه لا يكون لتعريف جنس ذلك الاسم حتى ينظر فيه، هل يفيد تعريف عموم الجنس، أو مطلق الجنس فافهم هذا، فإنه من محاسن المسالك.
فإن الحقائق ثلاثة: عامة، وخاصة، ومطلقة.
فإذا قلت: الإنسان، قد تريد جميع الجنس، وقد تريد مطلق الجنس، وقد تريد شيئًا بعينه من الجنس.
فأما الجنس العام، فوجوده في القلوب والنفوس علمًا ومعرفة وتصورا.
وأما الخاص من الجنس: مثل زيد وعمرو، فوجوده هو حيث حل، وهو الذي يقال له وجود في الأعيان، وفي خارج الأذهان وقد يتصور هكذا في القلب خاصًا متميزا.
وأما الجنس المطلق مثل الإنسان المجرد عن عموم وخصوص، الذي يقال له نفس الحقيقة، ومطلق الجنس، فهذا كما لا يتقيد في نفسه، لا يتقيد بمحله، إلا أنه لا يدرك إلا بالقلوب، فتجعل محلا له بهذا الاعتبار، وربما جعل موجودا في الأعيان باعتبار أن في كل إنسان حظًا من مطلق الإنسانية فالموجود في العين المعينة من النوع حظها وقسطها.
فإذا تبين هذا، فقوله: فإنه كان لا يستنزه من البول، بيان للبول المعهود، وهو الذي كان يصيبه، وهو بول نفسه. يدل على هذا ـ أيضًا ـ سبعة أوجه:
أحدها: ما روى، (فإنه كان لا يستبرئ من البول) والاستبراء لا يكون إلا من بول نفسه؛ لأنه طلب براءة الذكر، كاستبراء الرحم من الولد.
الثاني: أن اللام تعاقب الإضافة، فقوله: (من البول) كقوله: من بوله، وهذا مثل قوله: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50]، أي أبوابها.
الثالث: أنه قد روى هذا الحديث من وجوه صحيحة: (فكان لا يستتر من بوله) وهذا يفسر تلك الرواية.
ثم هذا الاختلاف في اللفظ متأخر: عن منصور، روى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس. ومعلوم أن المحدث لا يجمع بين هذين اللفظين، والأصل والظاهر عدم تكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أنهم رووه بالمعنى، ولم يبن أى اللفظين هو الأصل.
ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال اللفظين، مع أن معنى أحدهما يجوز أن يكون موافقًا لمعنى الآخر، ويجوز أن يكون مخالفًا، فالظاهر الموافقة. يبين هذا أن الحديث في حكاية حال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، ومعلوم أنها قضية واحدة.
الرابع: أنه إخبار عن شخص بعينه أن البول كان يصيبه، ولا يستتر منه. ومعلوم أن الذي جرت العادة به بول نفسه.
الخامس: أن الحسن قال: البول كله نجس، وقال ـ أيضًا ـ: لا بأس بأبوال الغنم، فعلم أن البول المطلق عنده هو بول الإنسان.
السادس: أن هذا هو المفهوم للسامع عند تجرد قلبه عن الوسواس والتمريح، فإنه لا يفهم من قوله: فإنه كان لا يستتر من البول إلا بول نفسه. ولو قيل: إنه لم يخطر لأكثر الناس على بالهم جميع الأبوال: من بول بعير، وشاة وثور، لكان صدقًا.
السابع: أنه يكفي بأن يقال: إذا احتمل أن يريد بول نفسه؛ لأنه المعهود، وأن يريد جميع جنس البول، لم يجز حمله على أحدهما إلا بدليل، فيقف الاستدلال. وهذا ـ لعمرى ـ تنزل، وإلا فالذي قدمنا أصل مستقر، من أنه يجب حمله على البول المعهود، وهو نوع من أنواع البول، وهو بول نفسه الذي يصيبه غالبًا، ويترشرش على أفخاذه وسوقه، وربما استهان بإنقائه، ولم يحكم الاستنجاء منه. فأما بول غيره من الأدميين، فإن حكمه ـ وإن ساوى حكم بول نفسه ـ فليس ذلك من نفس هذه الكلمة، بل لاستوائهما في الحقيقة، والاستواء في الحقيقة يوجب الاستواء في الحكم. ألا ترى أن أحدا لا يكاد يصيبه بول غيره، ولو أصابه لساءه ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن أمر موجود غالب في هذا الحديث، وهو قوله
¥