وهذا القول: دلت عليه آيات من كتاب الله، جاء فيها التصريح بالبكم والصَّمَم والعمى مُسنداً إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم: صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] فقد قال فيهم: (صم بكم) مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم، كما صرح به في قوله تعالى فيهم: {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أي لفصاحتهم، وقوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19]، فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسِنةٍ حِداد، هم الذين قال الله فيهم: صم بكم عمي، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما يُنتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صَمُّوا عنه فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعموا عنه فلم يروه، مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه وينطقون به، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} [الأحقاف:26]. (32)
واعتُرِضَ هذا القول: بأن فيه قلب للتشبيه المذكور في الآيات، حيث جُعل المشبه به مشبهاً؛ لأن القيد المذكور في هذا القول يصدق على موتى الأحياء من الكفار، فإنهم يسمعون حقيقة، ولكن لا ينتفعون من سماعهم، كما هو مشاهد، فكيف يجوز جعل المشبه بهم - من موتى القبور - مثلهم في أنهم يسمعون ولكنهم لا ينتفعون من سماعهم، مع أن المشاهد أنهم لا يسمعون مطلقاً، ولذلك حسن التشبيه المذكور في الآيات، فبطل القيد الذي ذكره أصحاب هذا القول. (33)
القول الثالث: أن معنى الآيات: إنك لا تُسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، ولكن الله تعالى هو الذي يسمعهم إذا شاء؛ إذ هو القادر على ذلك دون من سواه.
وهذا رأي: ابن التين (34)، والإسماعيلي (35)، وذكره ابن جرير الطبري احتمالاً آخر في معنى الآية (36).
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
الدليل الأول: أن الله تعالى بعد أن نفى السماع قال: {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} [النمل: 81]، فبين أن الهداية من الكفر إلى الإيمان بيده دون من سواه، فنفيه سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون قادراً أن يُسمع الموتى إلا بمشيئته، هو كنفيه أن يكون قادراً على هداية الكفار إلا بمشيئته.
الدليل الثاني: أن الله تعالى أثبت لنفسه القدرة على إسماع من شاء من خلقة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء}، ثم نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم القدرة على ما أثبته وأوجبه لنفسه من ذلك، فقال له: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ولكن الله هو الذي يسمعهم دونك وبيده الإفهام والإرشاد والتوفيق، وإنما أنت نذير فبلغ ما أرسلت به. (37)
أدلة القائلين بإثبات السماع مطلقاً للأموات:
استدل القائلون بإثبات السماع مطلقاً للأموات بأدلة منها:
الدليل الأول: مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر من المشركين (38)، وهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقوله صلى الله عليه وسلم من أولئك الموتى بعد ثلاث، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصاً. (39)
واعتُرِضَ: بأن عائشة رضي الله عنها روت الحديث بلفظ: «إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ»، وهذا يدل على أن الرواية التي فيها التصريح بالسماع غير محفوظة.
وأجيب: بأن تأول عائشة رضي الله عنها بعض آيات القرآن، لا تُرد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ويتأكد ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أن رواية العدل لا ترد بالتأويل.
¥