ـ[المسيطير]ــــــــ[16 - 05 - 04, 02:18 ص]ـ
.
ـ[المسيطير]ــــــــ[18 - 05 - 04, 01:44 ص]ـ
أهم مميزات علم الحديث
وأوضح خصائصه
تقدم في (التمهيد) أن لكل علم خصائص، وأن للعلم بهذه الخصائص فائدتين، ذكرناهما هناك.
ويهمنا هنا إحدى الفائدتين، وهي: أن العلم بخصائص علم ما يوقفنا على الأسلوب الصحيح في تحصيله، وعلى العوائق الحائلة دون بلوغ غايتنا منه، وعلى وسائل تجاوزها؛ لأن كل ميزة لذلك العلم ينبه إدراكها إلى سبيل احتوائها، في حين أن عدم إدراكها أكبر عقبة (أو يكاد يكون كذلك) دون فهم ذلك العلم والوصول إلى مرادنا منه.
وقد تنبهت إلى أربع خصائص لعلم الحديث، أحسبها أهم خصائصه، فأحببت لفت نظر طلاب العلم إليها، ليبتدئوا طلب علم الحديث بالأسلوب والمنهج الصحيح اللائق بهذا العلم، ولكي لا تتعثر خطاهم ويضيعوا أزماناً (لا تقدر بثمن) قبل إدراك ذلك المنهج الصحيح.
وإليك هذه المميزات الأربعة، تحت عناوين أربعة فيما يلي؛ متبعاً كل ميزة منها بالمنهج الذي تستلزمه في الطلب، وبأسلوب التحصيل الصحيح في مواجهتها، وما هي وسائل احتوائها دون أن تصبح عقبة كأداء في طريق علم الحديث.
الميزة الأولى:
من أهم مميزات علم الحديث أنه علم شديد المأخذ، صعب المرتقى، دقيق المسالك، بعيد الغور. ولذلك فليس من السهل فهمه، ولا من اليسير تعلمه، ولا يقدر على فقهه كل أحد، ولا يستطيعه كثير أناس.
ولهذا كان الإمام الزهري (ت124 هـ) يقول: (الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم) (). ومعنى هذا أن الحديث يحتاج إلى عقل فحل في عزم وحزمه وإصراره وقوته، ولا ينفع معه العقل الضعيف المتردد المتحير الملول؛ وهذا غير الذكاء وسرعة الفهم، فربما كان العقل ذكياً لكنه ليس ذكراً!!
ولذلك فقد قل من ينجب في علم الحديث ويتميز، يوم أن كان طالبو الحديث ألوفاً! ويوم كانت ألوفهم من الطراز الأول من طلبة العلم!!
يقول شعيب بن حرب (ت197 هـ): (كنا نطلب الحديث أربعة آلاف، فما أنجب منا إلا أربعة) ().
ولما كثر من يطلب الحديث في زمن الأعمش، قيل له: (يا أبا محمد، ما ترى؟! ما أكثرهم!! قال: لا تنظروا إلى كثرتهم،، ثلثهم يموتون، وثلثهم يلحقون بالأعمال (يعنى الوظائف الحكومية)، وثلثهم من كل مائة يفلح واحد) ().
ولهذا العمق في علم الحديث نهى نقاد الحديث عن شرح كثر من علل الروايات إلا عند أهل الحديث، لما يخشى من شرح ذلك على غير أهل الحديث أن يكون سبباً في أن يفتتنوا أو يفتنوا!! من باب: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) ()، وباب: (إنك لست محدثاً قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) ()!!
يقول الإمام أبو داود السجستاني (ت 275هـ) في (رسالته إلى أهل مكة): (وربما أتوقف عن مثل هذه (يعني: إبراز العلل)، لإنه ضرر على العامة لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن ذلك ().
ويقول الخطيب البغدادي (ت 463هـ): (أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا تعرف جودة الدينار والدرهم بلون ولا مس، ولا طراوة ولا يبس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة؛ وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج الزائف والخالص والمغشوش. وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به) ().
وقبلهما يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ): (معرفة الحديث إلهام) ()، ويقول أيضاً: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) (). ولما أنكر ابن مهدي حديثاً رواه رجل، غضب للرجل جماعة، وقالوا لابن مهدي: (من أين قلت هذا في صاحبنا؟!) فلم يبين لهم العلة الحديثية التي جعلته ينكر على ذلك الرجل، وإنما قال لهم: (أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال الصيرفي: هو بهرج، يقول له: من أين قلت لي إنه بهرج؟ (فأجاب ابن مهدي على لسان الصيرفي): الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم) ().
ويؤكد أيضاً أحمد بن صالح المصري (ت 248هـ) أن علم الحديث لا يفهمه إلا أهله، عندما قال: (معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب، إنما يبصره أهله) ().
وبذلك يقرر هؤلاء العلماء وغيرهم من أئمة السنة أن علم الحديث علم تخصصي، لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى إلى صرف الهمة كلها له، ووقف الجهد جميعه عليه، وقصر الحياة على تعلمه وتحصيله؛ وما ذلك إلا لأنه علم شديد العمق بعيد الغور، كما سبق.
ومع ذلك:
لا يؤيسنك من مجد تباعد**** فإن للمجد تدريجاً وترتيباً
إن القناة التي شاهدت رفعتها****تسمو فتنبت أنبوباً فأنبوبا
وقال آخر
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر****وبالرواح على الحاجات والبكر
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبه****فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني رأيت – وفي الأيام تجربة ****للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه****واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
يتبع بإذن الله.
¥