والضرب الثاني: من الغصوب ما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية وتصرفوا فيه تصرف الملاك بالقهر والغلبة، فهذا موقوف على تظلم أربابه ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد أربعة أمور، إما باعتراف الغاصب وإقراره، إما بعلم والي المظالم فيجوز له أن يحكم عليه لعلمه، وإما ببينة تشهد على الغاصب بغصبه أو تشهد للمغصوب منه بملكه، وإما بتظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ، ولا يختلج فيها الشكوك لأنه لما جاز للشهود أن يشهدوا في الأملاك بتظاهر الأخبار كان حكم ولاة المظالم بذلك أحق"، فذكر رحمه الله تعالى خمسة أقسام كلها في الحسبة على الولاة.
نماذج من احتساب العلماء:
لكن هذا التنظيم لم يمنع من أصل الحسبة الفردية التي يقوم بها المسلمون في مواجهة تعدي بعض الولاة، وقد حفظ لنا التاريخ من ذلك نماذج كثيرة نذكر بعضها
ففي الرتبة في طلب الحسبة: "أن السلطان بمدينة دمشق طلب محتسبا فذكروا له رجلا من أهل العلم فأمر بإحضاره فلما حضر بين يديه قال: إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر قال: إن كان الأمر كذلك فقم عن هذه الطراحة، وارفع هذا المسند فإنهما حرير، واخلع هذا الخاتم فإنه ذهب، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها"، قال: فنهض السلطان عن طراحته، وأمر برفع المسند، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: ضممت إليك النظر في أمور الشرطة فما رأى الناس محتسبا أهيب منه"
وعنده أيضا: "عن أحمد بن إبراهيم المقري قال: كان أبو الحسن النوري رجلا قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرا غيره، ولو كان فيه تلفه فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقا فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار لطف، فقرأه، وأنكره؛ لأنه لم يعرف في التجارات، ولا في البيوع شيئا يعبر عنه لطف ف
قال الشيخ رضي الله عنه للملاح: أي شيء في هذه الدنان؟
فقال: وأي شيء عليك امض لشغلك فلما سمع النوري رحمه الله من الملاح هذا القول ازداد تعطشا إلى معرفته
فقال: له أحب أن تخبرني أي شيء في هذه الدنان؟
فقال الملاح: أنت والله صوفي فضولي هذا خمر المعتضد بأمر الله يريد أن يتمم به مجلسه،
فقال النوري: هذا خمر؟ قال: نعم،
فقال: أحب أن تعطيني ذلك المدري
فاغتاظ الملاح عليه، وقال لغلامه: أعطه المدري حتى أنظر الذي يصنع! فلما صارت المدري في يده صعد إلى الزورق فلم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على آخرها إلا دنا واحدا، والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الخمر، وهو يومئذ موسى بن أفلح فقبض على النوري، واستحضره إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس أنه سيقتله،
قال أبو الحسن: فدخلت عليه، وهو جالس على كرسي حديد، وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب، قال: من ولاك الحسبة؟
قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين
قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليَّ وقال: وما الذي حملك على ما صنعت؟
فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه،
قال: فأطرق مفكرا من كلامي، ثم رفع رأسه وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة هذه الدنان؟
فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن لي
فقال: أخبرني
فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقدمت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه وتعالى بذلك، وعم قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة، فغابت هيبة الخلق عني، فأقدمت عليه بالحال الأول، إلى أن صرت إلى هذا الدن، فجزعت نفسي كثيرا على أني قد أقدمت على مثلك فمنعت نفسي، ولو أقدمت عليه في الحال الأول، وكانت ملء الدنيا دنانا لكسرتها ولم أبال"
ويعلق الماوردي على هذه القصة بقوله: "فهذه كانت سيرة العلماء، وعاداتهم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوة الملوك، لكنهم اتكلوا على فضل الله أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية، وأزال قساوتها وآمالها، وأما الآن فقد استولى عليهم حب الدنيا، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك، والأكابر، والله المستعان على كل حال".
¥