والشجاعة: هيئة للنفس تحصل لها عند اعتدال القُوَّة الغضبيَّة، بِها يقدم الإنسان على ما يجب الإقدام عليه مع التعرُّض للمكاره الحائلة دون المرغوب، فمِنْ أخصِّ مظاهر الشجاعة الإقدام على الأمور التي يَحتاج الإنسان أن يعرض نفسه لها لدفع المكاره والآلام الواصلة إليه، مع ثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت، وهي بالأشراف والملوك أليق؛ بل لا يستحقون الملك مع عدم هذه الخلة، وهي وسط بين التهور والجبن.
وبواعث الشجاعة لا تختلف كثيرًا عن بواعث الرجاء؛ بأن يرغِّب السامعين بوصف الأمر العظيم، ويشهِّيه إلى القلوب ليبعثها على طلبه، مع ذكر الإمدادات الإلهية، والثقة بالله تعالى في صدق ما وعد.
والفرق بين الرجاء والشجاعة: أنَّ الرَّجاء لا يقتضي الإقدام على الأمر بخلاف الشجاعة التي تهيجها المكاره فتبعثها على اقتحام المخاطر، ومقاومة من يحول بين الشجاع ومطلوبه.
والخوف: هيئة للنفس، بها يحجم المرء عن مباشرة أمر، لما يتوهم به من المخاوف والأهوال.
ويتمكن الخطيب من إلقاء الخوف في القلوب بأمور:
منها: إنذارُ القوم بخطب عظيم، وطامة كبرى، وسوء الطالع، ووخيم العواقب، وما إلى ذلك من الأهوال التي تلقي الرعب في القلوب.
ومنها: أن يتوعد السامعين بحلول البلايا وانقضاء الآجال على أسوأ الأحوال، إذا هم تمادوا في غيهم، ولم ينتبهوا من غفلتهم.
والغضب: هيئة للنفس تتوجَّهُ إلى دفع المُؤْذِيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد الوقوع، وقوت هذه القوة الغضبيَّة وشهوتُها الانتقام، وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به، واعتدال هذه القوة أن تنبعث حيث يجب، وتسكن حيث يحسن الحلم، والكلام هنا في هذه القوة المعتدلة، والذي يهيج الغضب أمران:
الأول: ذكر الإهانة التي لحقته وتعظيم الأذى في عينه، وأن مثل ذلك لا يليق السكوت عليه، وما إلى هذا مِما يثير الغضب في النفوس، كما فعلت عفيرة بنت غفار، وكان طسم قد انتهكوا حرمتها:
أَيَجْمُلُ أَنْ يُؤْتَى إِلَى فَتَيَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ رِجَالٌ فِيكُمُ عَدَدُ الرَّمْلِ
أَيَجْمُلُ تَمْشِي فِي الدِّمَاءِ فَتَاتُكُمْ صَبِيحَةَ زُفَّتْ فِي العِشَاءِ إِلَى بَعْلِ
فَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هَذِهِ فَكُونُوا نَسَاءً لاَ تُعَابُ مِنَ الكُحْلِ
وَدُونَكُمُ ثَوْبُ العَرُوسِ فَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لأَثْوَابِ العَرُوسِ وَلِلنَّسْلِ
فَلَوْ أَنَّنَا كُنَّا رِجَالاً وَكُنْتُمُ نِسَاءً لَكُنَّا لاَ نُقِرُّ عَلَى الذُّلِّ
فَمُوتُوا كِرَامًا أَوْ أَمِيتُوا عَدُوَّكُمْ وَكُونُوا كَنَارٍ شَبَّ بِالْحَطَبِ الجَزْلِ
وَإِلاَّ فَخَلُّوا بَطْنَهَا وَتَحَمَّلُوا إِلَى بَلَدٍ قَفْرٍ وَمُوتُوا مِنَ الهزْلِ
فَلَلمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى أَذًى وَلَلهُزْلُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى نَكْلِ
فَدِبُّوا إِلَيْهِمُ بِالصَّوَارِمِ وَالقَنَا وَكُلِّ حُسَامٍ مُحْدَثِ العَهْدِ بِالصَّقْلِ
وَلاَ تَجْزَعُوا لِلْحَرْبِ قَوْمِي فَإِنَّمَا تَقُومُ بِأَقْوَامٍ كِرَامٍ عَلَى رِجْلِ
فَيَهْلِكُ فِيهَا كُلُّ وَغْدٍ مُوَاكِلٍ وَيَسْلَمُ فِيهَا ذُو الجَلاَدَةِ وَالفَضْلِ
الثاني: بيان ضرورة التشفي بالانتقام من الظالم حتَّى لا يتمادى في باطله وغيه، ويلحق بِهذا المقام المنافسة والحياء، فالمنافسة: مُنازَعَةُ النَّفْسِ إلى التَّشَبُّه بِالغَيْرِ فيما يراه المرء حسنًا ويرغب فيه لنفسه، والاجتهاد في الترقي إلى درجة أعلى من درجته، وهي مَحمودةٌ في معالي الأمور، وكل ما يكسب مجدًا بشرط أن تكون من طريق شريف مشروع، وتُثارُ المُنافسة بِذِكْرِ مَحاسِنِ مَن يُقْتَدَى بِهم، وبيان العار الذي يلحق بالسامعين إذا لم يسلكوا سبيلهم.
أمَّا الحياءُ فهو: انقباض النفس من شيء، وتركه حذرًا من اللَّوْمِ فيه، وإن شئت فقل: هو أن يحسن المرء ارتداع النفس عمَّا يقبُحُ تعاطيه، والإقدام عليه لملاحظته من ذلك قبح الأحدوثة، فهو كمالٌ لا نَقْصٌ، وإنَّما النَّقْصُ الإفراد في هذه الصفة بحيث تضعف عن الإقدام على الحسن النافع، واتِّقاء لذم من لا يعرف حسنه أو لا يعترف به، وتحريكه في القلوب بوصف سماجة الأمر الذي يراد الصد عنه، مع بيان قبح الأحدوثة بمزاولته، وهو أعمل في قلوب الأشراف منه في غيرهم.
¥