وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أويس القرني - رجل من أهل اليمن - أنه كان مجاب الدعاء، وكان من أبرِّ الناس بوالدته.
قف يا عبد الله، تأمل معي عظم قدر الأم وجميل إحسانها إليك:
حملتك في أحشائها تسعة أشهر, ذاقت فيها المر، وتغيرت عليها دنياها، فما المذاق هو المذاق، ولا المعاشرة هي المعاشرة! فكم من أنَّةٍ خالجتها، وزفرة دافعتها من ثقلك بين جنبيها, لا يزداد جسمك نموًّا إلا وتزداد معه ضعفًا!!
تُسَرُّ إذا أحسَّت بِحركتك داخل جوفها، ولا يزيدها تعاقب الأيام وكرُّ الليالي إلا شوقًا لرؤيتك واشتياقًا لطلَّتك!
ثم تأتي ساعة خروجك؛ فتعاني ما تعاني من خروجك!!
فلا تَسَلْ عن طَلْقِها الذي يُعتصر له الفؤاد، وآلامها التي تُعجزها عن البكاء!
حتى إذا ما خرجت من أحشائِها، وشمَّت عبق رائحتك؛ نسيت آلامها، وتناستْ أوجاعها، وعلقت فيك جميع آمالها، فكنت أنت المخدوم في ليلها ونهارها، كنت أنت رهين قلبها، ونديم فكرها, تغذيك بصحتها، وتدثرك بحنانها، وتُميط عنك الأذى بيمينها، تخاف عليك من اللمسة، وتشفق عليك من الهمسة.
إذا صرخت فزَّ قلبها إليك، وإذا جعت تلهفت من أجل سد جوعتك، سرورها أن ترى ابتسامتك، راحتها أن تضمك إلى صدرها، إذا مسَّك ضرٌّ لم يرقأ لها دمع, ولم تكتحل بنوم, تفديك بروحها وعافيتها!!
فكم ليلة سهرتها من أجل راحتك، وكم دمعات رقرقتها من أجل صحتك، ولسان حالها:
فَنَمْ وَلَدِي بِمَهْدِكَ فِي هَنَاءٍ وَدَاعِبْ طَيْفَ أَحْلامِ الرُّقَادِ
وَإِنْ حَلَّ الظَّلامُ بِجَانِحَيْهِ وَأَرْخَى ظِلَّهُ فِي كُلِّ وَادِ
وَنَامَ الْخَلْقُ فِي أَمْنٍ جَمِيعًا فَقَلْبِي سَاهِرٌ عِنْدَ الْمِهَادِ
ويا ليت عناءها ينتهي عند هذا؛ بل ما تزيدها الأيام إلا لك حبًّا، وعليك حرصًا؛ فما إن يتم فصالك عامين، وتبدأ خطواتك الصغيرة بالثبات - إلا وترمقك بنظراتها، وتحيطك بعنايتها.
أوامرك مطاعة, وطلباتك مُجابة, تغتمُّ لحزنك، وتضيق لغضبك، تشقى لك أنت, تسعد وتتعب حتى تهنأ أنت!
فكم من دموع عنك أزالتها، وهموم عن صدرك أزاحتها, حتى إذا صلب عودك، وزهر شبابك - كنت أنت عنوان فخرها، ورمز مباهاتها، تسر بسماع أخبارك، وتسعد برؤية آثارك، إذا غبت عن عينها رافقتك دعواتها، فكم من دعوات لك تلجلجت وأنت لا تدري، وكم من ابتهالات سالَتْ معها الدموع على المآقي من أجلك وأنت لا تشعر! مناها أن يرفرف السرور في سمائك, غايتها أن توفَّق في حياتك وبناء أسرتك.
تعطيك كل شيء ولا تطلب منك أجرًا, وتبذل لك كل وسعها ولا تنتظر منك شكرًا! أحسنت إليك إحسانًا لا تَراه، وقدَّمت إليك معروفًا لن تُجازاه.
أَطِعِ الإلَهَ كَمَا أَمَرْ وَامْلأْ فُؤادَكَ بِالحَذَرْ
وَأَطِعْ أَبَاكَ فَإِنَّهُ رَبَّاكَ فِي عَهْدِ الصِّغَرْ
وَاخْضَعْ لأُمِّكَ وَارْضِهَا فَعُقُوقُهَا إِحْدَى الكُبَرْ
البر بالأم - عباد الله – مفخرة الرجال وشيمة الشرفاء، وقبل ذلك كله: هو خُلُقٌ من خُلُق الأنبياء؛ قال تعالى عن يحيى - عليه السلام -: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14]، وقال عيسى - عليه السلام -: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32].
البرُّ بالام - إخوة الإيمان - برهانٌ على صدق الإيمان وحسن الإسلام، وعملٌ بالتقوى.
البرُّ بالام يتأكَّد يوم يتأكد إذا تقضَّى شبابها، وعلا مشيبها، ورقَّ عظمها، واحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها، وزارتها أسقامها، في هذه الحال من العمر لا تنتظر صاحبة المعروف والجميل من ولدها إلا قلبًا رحيمًا، ولسانًا رقيقًا، ويدًا حانيةً.
فطوبى لمَنْ أحسن إلى أمِّه في كبرها، طوبى لمن شمَّر عن ساعد الجدِّ في رضاها؛ فلم تخرج من الدنيا إلا وهي عنه راضية مرضية.
يا أيها البارُّ بأمه - وكلنا نطمع أن نكون ذاك الرجل -:
¥