فإذا كانت البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات فكيف بالبينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض وهو بكل شيء محيط، وقد دل السمع والعقل على أن الله تعالى: بائن من خلقه، ولا يحل في شيء من خلقه، ولا يحل فيه شيء من خلقه، وأجمع السلف على ذلك.
ونقول على الوجه الثاني: إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى: لا يستلزم معنى فاسدًا، وحينئذ يكون مرادًا قطعًا، فإن لله تعالى: أصابع حقيقية تليق بالله عز وجل، ولا تماثل أصابع المخلوقين وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبرثم قرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى: عما يشركون} [] (1). هذا لفظ البخاري في تفسير سورة الزمر.
فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال: إنه غير مراد؟!
ويشبه هذا الخطأ أن يجعل اللفظ نظيرًا لما ليس مثله كما قيل في قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} [] (2) إنه مثل قوله تعالى: {مما عملت أيدينا} [] (3) فيكون المراد باليد نفس الفاعل في الآيتين. وهذا غلط فإن الفرق بينهما ثابت من وجوه ثلاثة:
الأول: من حيث الصيغة فإن الله قال في الآية الأولى: {لما خلقت بيدي}. وهي تخالف الصيغة في الآية الثانية فإن الله قال فيها: {مما عملت أيدينا}. ولو كانت الأولى نظيرة للثانية لكان لفظها: {لما خلقت يداي}. فيضاف الخلق إليهما، كما أضيف العمل إليها في الثانية.
الثاني: أن الله تعالى: أضاف في الآية الأولى الفعل إلى نفسه معدى بالباء إلى اليدين فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيديه. ألا ترى إلى قول القائل: كتبت بالقلم فإن الكاتب هو فاعل الكتابة، ومدخول الباء وهو القلم حصلت به الكتابة.
وأما الآية الثانية: {مما عملت أيدينا}. فأضاف الفعل فيها إلى الأيدي المضافة إليه وإضافة الفعل إلى الأيدي كإضافته إلى النفس فكأنه قال: مما عملنا. ألا ترى إلى قوله تعالى:: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [] (4). والمراد بما كسبتم بدليل قوله في آية أخرى: {فأصابهم سيئات ما كسبوا} (5).
الوجه الثالث: أن الله تعالى: أضاف الفعل في الآية الأولى: {لما خلقت بيدي} [] (1) معدى بالباء إلى يدين اثنتين، ولا يمكن أن يراد بهما نفسه لدلالة التثنية على عدد محصور باثنين، والرب-جل وعلا-إله واحد فلا يمكن أن يذكر نفسه بصيغة التثنية لدلالة ذلك على صريح العدد وحصره ولكنه تعالى: يذكر نفسه تارة بصيغة الإفراد للتوحيد، وتارة يذكر نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، وربما يدل الجمع على معاني أسمائه.
أما في الآية الثانية فأضاف الفعل إلى الأيدي المضافة إليه مجموعة للتعظيم فصار المراد بها نفسه المقدسة جل وعلا.
وبهذا تبين الفرق بين قوله: {لما خلقت بيدي} [] (2). وقوله: {مما عملت أيدينا} (3) وأنها ليست نظيرًا لها. وتبين أيضًا أن ظاهر النصوص في الصفات حق ثابت مراد لله تعالى: على الوجه اللائق به، وأنه لا يستلزم نقصًا في حقه ولا تمثيلًا له بخلقه.
لكن لو كنا نخاطب شخصًا لا يفهم من ظاهرها إلا ما يقتضي التمثيل فإننا نقول له: إن هذا الظاهر الذي فهمته غير مراد، ثم نبين له أن هذا ليس ظاهر النصوص لأنه باطل لا يقتضيه السياق كما سبق بيانه.
فتاوى ابن عثيمين: المجلد الرابع
ـ[أبو يوسف التواب]ــــــــ[26 - 05 - 08, 12:49 ص]ـ
جزاك الله خيراً أخي الكريم
ولكون هذا الأصل ظاهراً عند أئمة السلف الصالح اكتفيتُ بالإشارة إليه، والتمثيل له بمثال، وإلا فأمثلته كثيرة جداً تزيد على ما نقلتَه -أخانا المفضال- أضعافاً مضاعفة.
وولفائدة: (يا ابن آدم) بإثبات الألف.
نفع الله بكم