و لما وقع تغيير الخليفة المهدي للمسعى سنة 167: استقرَّ الإجماعُ على أن المسعى، هو: هذا المسعى المعهود المحدود بالأميال الخضراء.
و ممن نقل الإجماع على ذلك:
الحافظ الفاسي مؤرخ مكة في كتابه (شفاء الغرام) [1]، والقطبي في كتاب (الإعلام) [2]، و الرملي في (نهاية المحتاج) [3]، و ملا علي قاري في (مرقاة المفاتيح)، حيث قال: (و المسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابراً عن كابر) [4].
و لا يرِدُ على العلماء قول من يقول من أهل العلم: (لا يوجد إجماع عملي محفوظ للأمة في ذلك، .. ) [5].
لأنه يقال: إنَّ حكاية الإجماع لها مقامان:
المقام الأول: من يرى أنَّ المسعى الحالي هو كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تغيير. و يضبطون ذلك بقولهم: (المسعى بطوله يحكمه جبل الصفا والمروة، و عرضه: يحكمه عمل القرون المتتالية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا) [6].
المقام الثاني: من يقول: إنَّ الإجماع قد استقر بعد تغيير الخليفة المهدي وتحويله للمسعى النبوي و هدمه لبعض البيوت على هذا المسعى المعهود الذي استقرَّ عليه عمل المسلمين. وهذا يقول به عددٌ من العلماء و الحفاظ كـ: الحافظ الفاسي، و العلامة القطبي النهراولي الحنفي، و الرملي الشافعي، و ملا علي قاري الحنفي.
و حكايةُ العلماء لإجماع جديد في المسألة يدلُّ على أنه قد حُوِّلَ بعضه أو كله، وتعضد ذلك الرواية التاريخية.
و لا يوجد فرق بين أصحاب المقامين في حكاية الإجماع، ذلك أنَّ مقصود أصحاب المقام الأول حاصل بحكاية الإجماع المستقر على (المسعى المعهود) الذي توارث المسلمون العمل عليه.
وحكاية هؤلاء العلماء للإجماع، لأنهم رأوا أنَّ الواقعَ المشاهدَ في زمانهم (زمان الأزرقي و الفاكهي و الفاسي) هو انتهاء محل السعي المحصور بين الصفا والمروة، فإنهم رووا أنَّ الخليفة المهدي وصل بهدم الدور إلى دار عباد بن جعفر الملاصقة لجبل أبي قبيس، فتوقف عن الهدم لئلا يخرج عن البينية المقصودة للشارع.
و هم كانوا يشاهدون هذه الدار و يعرفونها و يشيع ذلك فيهم، فحملتهم الهمم والدواعي لضبط حدود ما بين الصفا والمروة عندما رأوا تغيير الخلفاء لها. و لا ريب أن معرفتهم بحدود الجبال و أسمائها وما يدخل فيها وما لا يدخل، أولى بالإتباع من معرفة المعاصرين بلا خلاف.
فإنْ قيلَ: الإجماع المحكي في المسألة هو على صحة السعي و إجزائه في المسعى المعروف القديم الذي عليه العمل لا على أنَّ غيره ليس محلاً للسعي؟!
فالجواب: أنَّ هذا مما يؤكدُ حكاية الإجماع، و أنَّ المقصود بقولهم (المسعى) هو هذا المحل المعروف المعهود، و أنْ لا محل للسعي سواه، لأنهم لو علموا محلاً مجزياً فيه السعي غير هذا لدَّلوا عليه، لوجود المقتضي لذلك، فإنَّ ذلك كان من همة الخليفة المهدي، و قد بذل الأموال واهتم لذلك اهتماماً شديداً كما ذكروه في كتب التاريخ، و لو كان هناك محلاً للسعي لدَّلوا عليه الخليفة المهدي، و لَمَا جاز لهم السكوت عنه، و هم كانوا يشاهدون المواضع و ما يدخل فيها و ما لا يدخل، و ينقلون ذلك عن أسلافهم بطريق التواتر والسماع، و قد توقف الخليفة المهدي عن هدم بقية دار عباد بن جعفر مع عظيم رغبته في التوسعة على المسلمين، و لكن لظهور حد جبل أبي قبيس في دار عباد، توقف عن إكمال الهدم.
و السعي بين الصفا والمروة لا بين أبي قبيس والمروة بنص التنزيل.
و من هنا نعلم أنَّه لا يردُ على علماء الإسلام قول القائل: ( .. ، وما ورد من ذرعٍ لعرض المسعى مما ذكره بعض الفقهاء وبعض المؤرخين: إنما كان من باب ضبط الواقع المشاهد الذي كان في زمنهم، لا أنه تحديد من الشارع) [7].
لأنه لا دليل على قولهم هذا، بل هو دعوى مجردة، خلية عن البرهان، و من علم حجة على من لم يعلم.
الدليل الثاني: الاستدلال بأقوال الفقهاء بعدم صحة السعي خارج بناء المسعى المعهود، سواءً أكان ذلك داخل المسجد الحرام أو خارجه.
¥