لقد كانت الشهوات - التي تزيِّنها وتدعو إليها أغلب القنوات الفضائية - هي الخطرَ الأعظم الذي كان يواجهه الشبابُ، وكان المشايخ والدعاة والوعاظ يركزون جهودهم عليها تحذيرًا ومعالجة؛ لكن موجة أخطر وأعظم - يَهون عندها ذلك الخطر - وهي موجة الانحراف الفكري، والخلل العقدي، أصبحت اليوم على وشْك اقتحام عقول الشباب بشكل كبير؛ بفضل القنوات الفضائية، ومنتديات الإنترنت، والروايات.
إنها حرب عقائدية وفكرية، تستقطب كافة القدرات والعقليات؛ لزعزعة الثوابت العقائدية، وخلخلة الأمن الفكري عند الشباب، وإنني أزعم - آسفًا - أن تلك الحرب نجحت نجاحًا كبيرًا في التسلل إلى شريحة من شبابنا، في ظل غفلتنا وتساهلنا.
لقد شُغل أهل الفكر ونُخب المثقفين والدعاة، عن هموم الشباب - ذكورًا وإناثًا - وخصوصًا أسئلتهم الحرجة والذكية، بصراعات ومعارك داخلية، فتَّت في اللحمة الفكرية، وشككت الشباب في قيمهم ورموزهم، كما حصل في المواجهات التي دارت بين بعض طلاب العلم في الفترة الماضية حول مسائل منهجية تتعلق بمسيرة الدعوة إلى الله، أكثرها مما يقبل الاجتهاد والتأويل.
لقدأنتجت تلك المعارك ضحايا، وبأشكال مختلفة، وخرَجت من تحت عباءتها تياراتٌ جديدة، نفضت عنها غبار وأنقاض تلك المعارك؛ كالعقلانية الإسلامية، والإصلاحية التنويرية، والليبرالية الإسلامية، كما يسميها البعض، لقد كان أغلب هؤلاء هم من أبناء الصحوة السابقين، والذين أرادوا أن يُبينوا عن سخطهم على ما حدث - بالإضافة إلى أسباب أملتْها طبيعة المرحلة - بانتحال تلك الأشكال الجديدة للتصحيح، مع بقاء بعضهم في الأغلب - محسنين الظن - داخل إطار المبادئ الكلية للإسلام.
وأنتج الوضع الجديد معركةً جديدة بين التقليديين - كما يحلو للبعض أن يسميهم - وبين فريق التنويريين والعقلانيين والليبراليين الإسلاميين - كما يصفون أنفسهم- وتمحور الصراع حول شرعية مبادئ الحرية، والديمقراطية، والعدالة، والأنسنة، والمجتمع المدني، والموقف من الآخر، مع رفع الفريق الثاني شعارَ التمسك بالأصول والثوابت، كما يفهمها هو.
وقد استنزف هذا الصراع قدراتِ الطرفين، وهممَه وجهودَه، وضم فريق شعارات التنوير أطيافًا عديدة ومختلفة ومتناقضة من اليمين إلى اليسار، وربما استقوى في ذلك بأطراف خارجية، حتى وصل الحال بقلة منهم إلى الخروج من الدائرة بشكل كلي، وإعلانه الانسلاخ من كل ما يمت إلى الأمة من مقدساتٍ وثوابتَ.
وفي موازاة تلك التيارات التنويرية وما رافقها من نقد وانتقاد، كان هناك تيار آخر يتشكل في ضوء الوضع الجديد، وهو تيار شبابي حديث، منقطع عن الجذور، ومتمرد على التصورات التقليدية والتنويرية، منكر للرب، هاجر للعبادات، ويقتات على النقد والصراع الجديد بين ما يُسمى بالمحافظين والليبراليين الجدد، وتجاوزت ذلك - بفضل التقنيات الحديثة، وإجادة اللغات الأجنبية، والابتعاث - إلى الارتكاز والتمحور حول الروايات الأجنبية بمختلف أشكالها، والكتب الفلسفية، وأطروحات المذاهب الفكرية الحديثة، فأنتج ذلك المخاض جيلاً شبابيًّا منقطع الانتماء والجذور عن مجتمعه، يحمل ثقافة مستوردة، قائمة على الشك، وناقمة على الثقافة المحلية، وحاقدة ومبغضة للنمطية، تتخذ النسبية دينًا، ولا تعترف بوجود حقائق ثابتة، كل ذلك مع ضعفٍ شديدٍ في التصورات الشرعية.
ومما زاد الأمرَ سوءًا، عند هؤلاء الشباب، أمران:
الأول: الحملة المحمومة في وسائل الإعلام على المتدينين، وعلى أنماط التدين، تلك الحملة الشاملة في الصحف والقنوات والمسلسلات، والتي تناولت الدين والمتدينين دون معرفة دقيقة أو تمييز، ودون حسبان للجوانب السيئة والنتائج الخطيرة التي سوف تنتجها حملة التشكيك والتشويه، مع أمنٍ مِن محاسبٍ ورقيب.
لقد ربطوا مظاهر الدين والتدين في تعاطيهم معها - يُظن أنها مقصودة ومدروسة - بالإرهاب، والعنف والتطرف، وسوء الأخلاق، والغباء، والجهل، والتدمير. لقد كانت حملة مركزة، وجرعة قاتلة، حطمت إلى حد كبير أسس القوة الناعمة (أي قوة القيم والمبادئ وأسسها الفكرية) التي كان المجتمع يتحلى بها.
¥